النساء إذ تغنين وقضايا أخرى في فيلم (نصف القمر) لـ بهمن قبادي
عباس علي موسى
إنّ موضوع غناء المرأة الممنوع في إيران يعدّ أحد القضايا التي تطالب بها مجموعات ومنظمات ومؤسسات مدنية وحقوقية، حيث إنّ قانون الجمهورية الإسلامية يمنع غناء المرأة في الأماكن العامة، والوضعيات التي يُسمح لها في الغناء فيها هي فقط تلك الحفلات النسائية.
تواجه النساء في إيران عقوبات متعدّدة بسبب الغناء بل إنّ فرق واجهت المنع أو تقييد عروضها بسبب مشاركة نساء في حفلاتهم، وقد تناول بهمن قبادي هذا الموضوع في فيلمه (نصف القمر)، الذي يعرض نقاط التفتيش وهي تطلق كلابا مدرّبة يمكنها الكشف عن النساء وهكذا يعتقلون المرأة المغنية في الفيلم، ضمن أحداث ودراما تعرض الموضوع على خطين متوازيين وهما الخط الواقعي الذي يعرض منع السلطات الإيرانية لغناء النساء وتشديدهم على هذه النقطة، وخط لاواقعي “سحري” يتمثّل بفنانة تشبه ملاكا يهبط من السماء لتغني معهم.
(نصف القمر) موضوعا فوق الواقع
يتحدّث الفيلم عن فنان يُدعى مامو، يأخذ تصريحا من السلطات الإيرانية لإقامة حفل في إقليم كردستان العراق، حيث إن الحفلة هي أحد الحفلات بمناسبة الإطاحة بالنظام العراقي، ويبدأ مامو بجمع أبناءه العشرة الذين هم أعضاء فرقته الموسيقية أيضا، للسير صوب الحدود، وتعترضهم الكثير من الصعوبات، حيث يعرض من خلال أحداث الفيلم كيف أنّ نقاط التفتيش تعثر على المرأة التي من المقرّر أن تغني مع (مامو) بطل الفيلم، ويعتقلونها ويحطمون أدوات الفرقة الموسيقية، ولا ينجح البطل في إشراك المرأة في فرقته، حتى بعد أن فرّ بها أحد الجنود وأعادها للفرقة، إذ أنّها تختفي بعد ذلك مرة أخرى بعد أن تترك رسالة لـ مامو بطل الفيلم، ويظلّ مامو دون أدوات موسيقية ودون مغنية تؤدي الأغنيات معه في الحفل المرتقب، الذي يقول مامو فيه إنه انتظر 35 عاما ليحيي هذه الحفلة وهو عمر سيطرة حزب البعث الحاكم على العراق قبل الإطاحة به في العام 2003، ثم يبدأ الجزء الآخر من الفيلم والذي يُشبه حُلم مامو في الغناء في قلعة أربيل التاريخية، حيث إنّ فتاة ما تظهر فجأة كهبة “سماوية” تهبط عليهم، وترسم لهم طريقا للوصول إلى مبتغاهم بما يشبه سحرا وترتّب لـ مامو حُلمه/ موته الذين يساويان حياته.
يتكرّر مشهد التابوت في الفيلم وسط الثلوج، التي تغطي مساحة بصرية شاسعة من الفيلم، حيث البياض يرسم ملامح الموت والنقاء والحلم، بينما الغناء يمثّل أنماط الندب والنوح الجنائزيين في تلك البيئة الشعبية على جانبي الحدود.
مُنع فيلم (نصف القمر) هذا من العرض في إيران، ومعه مُنع بهمن قبادي نفسه من العمل في الإخراج، وقد علّلت السُلطات الإيرانية قرارها بأنّ الفيلم يدعو إلى “الانفصال” الكردي عن إيران، فيما عزا البعض منع الفيلم إلى إثارته قضية غناء المرأة في إيران في ظلّ المنع وشحن الفيلم بالترميز والمباشرة في طرح الموضوع في أحد أهم الأفلام التي تناولت الموضوع بطريقة سينمائية مميّزة.
مشهد مهرجان النساء
إنّ أحد أبرز مشاهد فيلم (نصف القمر) هو مشهد مجموعة نساء يضربن الدفوف بما يُشبه مهرجانا من النساء بثياب مزركشة، يحملن الدفوف بحركة متزامنة وموجية من فوق الأسطح في تلك القرى الحدودية التي تبني بيوتها داخل الجبال حيث ترتفع مع الجبال، وكذلك في الطريق، حيث يستقبلون مامو وهن يغنين ويضربن الدفوف، ومامو مشدوه للمشهد وكأنه في حلم يقظة، حيث يسرد قصة غير واقعية لهذه القرية التي ترمز إلى النساء العازفات اللاتي تجمّعن أو نفين إليها لأنّ عليهن ألا يغنين، فهي قرية في المثلث الحدودي بين إيران وتركيا والعراق لجأت إليها 1334 مغنية هربا من الحظر، وهو مشهد شديد الترميز حول المرأة المغنية، حيث يستعرضها قبادي بطريقة حالومية (نسبة إلى الحُلُم)، ويذكرنا مشهد الاحتفاء بقدوم مامو والنساء يعزفن على جانبي الطريق، بمشهد فيلم الرسالة للعقاد أثناء ترديد قصيدة (طلع البدر علينا) على وقع الدفوف أيضا.
يحتفي المشهد باستقبال مامو كما يتم استقبال العائدين بخير ومكللين بالنصر من المعارك العظيمة، والفيلم الذي يتمحور حول الصوت والغناء وحلم الفنان الكبير مامو يجعل منه فاتحا منتصرا يستحق استقبالا يُشبه أحلامه وآماله.
الهويّة الكردية المشتّتة
تدور أحداث فيلم (نصف القمر) على الحدود الإيرانية العراقية في المناطق الكردية، والتي تجمعهما هويّة كردية وثقافية واحدة، إضافة إلى الحدود التركية التي تجمع هوية كردية أخرى، ومع أنّ موضوع شتات الهوية هو أحد رسائل الفيلم إلا أنّ قبادي يطرحها بطريقة بسيطة وقوية في ترميزها، فلغة الفيلم الكردية وبيئته وعناصره كلّها تحمل هوية مغايرة، لذلك ربما قرّرت السلطات في إيران منعه من العرض، ومعه حظر إخراج الأفلام على مخرجها بهمن قبادي الذي خرج بعدها من البلاد، إلى إقليم كردستان العراق وقد أعلن بعد ذلك في مناسبة عدّة أنّه مخرج كرديّ، وليس مخرجا إيرانيا، وفي أحد المشاهد في الفيلم وحين تبلغ الفرقة المثلث الحدودي تظهر شاخصة تؤشّر يمينا على العراق وتركيا ويسارا إلى إيران، حيث تقرّر الفرقة بالتحايل على مامو بطل الفيلم وتقرّر العودة بهم إلى إيران، فيعودون لكنّهم وبعد ظهور المرأة/ الملاك يرجعون مرة أخرى إلى الحدود، وهنا تبرز نقطة التداخل في الجغرافية ومعها الهويّة المشتتة.
صراع الديكة وفلسفة الموت
يستهلّ قبادي فيلمه بمشهد لأحد أبطاله وهو كاكو وهو يقود حلبة لصراع الديكة عبر مكبرة صوت وموسيقى وأجواء احتفالية كتلك التي كانت تشهدها روما في عصورها الذهبية، حيث يُراهن الناس في المعركة التي تنتهي بموت أحد الديكين، ويدشّنه بمقولة للفيلسوف الكبير كيركيجارد، حيث يقتبس منه ما يمثّل فلسفة كيركيجارد بمقولتين هما: (أنا لست خائفا من الموت لأني عندما أكون موجودا هنا، هو لا يكون) ومقولته (المكسب والخسارة ليسوا أكثر أهمية من الموت).
يمثّل مشهد صراع الديكة الحرب التي لا تكاد تنتهي وبخاصة على الحدود، التي لا تهدأ من حرب لأخرى، وتصبح فلسفة القبول بالموت أسلوب حياة في تلك المناطق التي تواجه موت يوميا. يقود مامو معركة الديكة الحامية لكنّ معركته لا تنتهي بالموت، أو بالأحرى يتركها معلّقة ليترك الحلبة مفتوحة ويمضي إلى حفلة/ حلم مامو.
يغلّف البياض والموت معظم مشاهد الفيلم، ويبلغ مامو في النهاية مبتغاه في الوصول إلى حفلته، لكن محمّلا في نعشه، لكنه مع ذلك سعيد، فليلة اكتمال القمر التي يرمز إليها عنوان الفيلم هي ليلة اكتمال الحلم وبالتالي انقضائه بالموت.
ويقول قبادي إنه استلهم موضوع فيلمه من مقطوعة موتسارت الشهيرة “قداس جنائزي” Requiem آخر ما ألفه الموسيقار الشهير عام 1791 قبيل وفاته، ورأى البعض أنه كتبها لجنازته.
بطاقة الفيلم والمخرج
العنوان: نصف القمر Half Moon
السنة: 2006 – النوع: روائي طويل.
قصة و سيناريو وإخراج: بهمن قوبادي
مدير التصوير: تايجل بلاك – مكياج: مهرداد مير كياني
مونتاج: عايده صفي ياري – صوت: بهمن اردلان
موسيقى: حسين عليزادة – إنتاج: ميج فيلم
تمثيل: إسماعيل غفاري – الله مراد رشتياني – فرزين صابوني – كامبيز عرشي – محمد ناهيد – صديق بهزاد بور – علي اشرف رضايي – رضا حاجي خسروي –بهرام زارعي – هدية تهراني – كلشفيته فراهاني – حسن بور شيرازي.
بهمن قبادي
ولد بهمن في مدينة بانه الحدودية في إيران عام 1969، في بداية شبابه عمل في إحدى محطات الاذاعة، ثم ذهب الى طهران ليدرس السينما، إلا أنه لم يكمل دراسته هناك. بين أعوام 1995 _ 1999 أخرج حوالي عشرة أفلام قصيرة ونال عنها العديد من الجوائز المحلية والعالمية.
عام 2000 غامر وجمع أموالا من خلال بيع كل ما يملك من ممتلكات وصنع أول أفلامه الروائية الطويلة والتي كانت بعنوان (وقت لثمالة الخيول) واستطاع أن يفوز بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي 2000 وبجائزة مهرجان شيكاغو السينمائي في الولايات المتحدة.
أهم أفلامه:
● “زمن الجياد السكرانة” A Time for Drunken Horses
● “معزولون في العراق ” Marooned in Iraq
● “السلاحف يمكن أن تطير ” Turtles Can fly
● “موسم الكركدن” Rhino Season
هذه المقالة نشرت في موقع جادة إيران