واقع تكرير النفط في مناطق الإدارة الذاتية شمال سوريا
تقرير معمّق حول واقع تكرير النفط، نُشر بتاريخ: 19-04-2019
تربسبيه/ القحطانية، نورث برس، إعداد: عباس علي موسى، حسين زيدو
معلومات وحقائق
على بعد /11/ كم جنوب مدينة القحطانية/تربه سبي وبين حدود قريتي بشيرية وتل بري “كري بري”، تقع أكبر تجمّعات تكرير النفط، حيث تعمل 200 حرّاقة؛ وهي عبارة عن خزّانات كبيرة بسعة /100/ إلى /200/ برميل، عدد محدود من هذه الحرّاقات تسمّى بـ”الفايكو” والتي تعتبر أكثر تطوراً من الحراقات العادية وبسعة تقدّر بـ /400/ برميل، وتمتدّ على طول ألفي متر وعرض خمسمائة متر، وتشغل مساحة ألف دونم، تتوزّع فيها الحرّاقات، يفصل بينها طريق لعبور الصهاريج والآليات، كما يفصل بين القريتين.
يستأجر مالكو الحرّاقات مساحة/5/ دنم التي تكفي لإنشاء حرّاقة واحدة بمبلغ يتراوح بين /450/ إلى /500/ ألف ليرة سورية (ما يعادل /810/ إلى /910/ دولار) سنوياً، فيما يكلّف المشروع حوالي تسعة ملايين سورية (16300 دولار)، حيث يعمل بكلّ حرّاقة من ثلاث إلى أربع أشخاص، عاملان وحارس والمستثمر القائم بأعمال المتابعة والمراقبة، وفيما تجد أنّ ستة أشخاص أو ثلاثة أشخاص يشتركون في استثمار حرّاقة واحدة نجد أنّ البعض يمتلك لوحده حرّاقة واحدة أو عدة حرّاقات.
يحصل العاملان على مبلغ عشرين ألف ليرة سورية (36 دولار) عن كلّ عملية تكرير للنفط الخام و تسمى بـ(الطبخة)، وتدوم ما بين عشرين إلى ثلاثين ساعة، فيما يحصل الحارس على أجرة شهرية تقدّر بـعشرين ألف ليرة، أما بالنسبة للمستثمر فيحصل على مبلغ تسعين ألف (165 دولار) لا يكون صافيا عادة، فيضع مجموعة تكاليف إضافية عدا أجور العاملين والمادة الخام، فيدفع مبلغ 250// ألف (450 دولار) شهرياً لترحيل المخلّفات بالإضافة إلى الأعطال، يضاف إليها /18/ ألف (32 دولار) لصهريج الماء مع كل عملية تكرير.
وتبدأ عملية الحرق بتعبئة خزان ذي سعة مائة برميل، ويعادل عشرين طن من النفط الخام، ويبدأ تشغيل الشودير الذي يعمل على محرّك ديزل وتتراوح مدة(الطبخة الواحدة) من عشرين إلى ثلاثين ساعة، ويستخرج منها ستة براميل بنزين سوبر، /18/ برميل بنزين عادي، إضافة إلى 54// برميل مازوت، طبعا يكون ممزوجاً بمادة الكاز، فيستخلص حوالي 10// إلى /10.5/ طن من المواد، ويتبقى من المخلّفات حوالي //11 إلى /11.5/ طن، والتي تحترق حين يتم استخراجها بعد تعرّضها للأوكسجين، وتبعث أدخنة سوداء كثيفة لحوالي نصف ساعة، ويتم جمعها ورميها في مقلع بالقرب من قرية تل بري (كري بري)، وتطمر بعدها كل فترة بطبقة من التراب.
وأما فيما يخص الانتاج فيتم بيعه عبر معتمدين إلى شركة عودة للنفط، ولا يسمح للبيع الحر، وهؤلاء المعتمدون يقومون بتأمين النفط الخام لأصحاب الحراقات، إضافة إلى بيع إنتاجهم، وهناك حوالي عشرة معتمدين يتابعون عمل الحرّاقات، ويقومون بدور الوسيط بين مختلف الجهات(الإدارة الذاتية – أصحاب الحراقات – شركة عودة للنفط “شركة نفط سورية تعمل في المنطقة منذ 10 أعوام”).
أضرار
ومع أنّ الكثير من العاملين باتوا يعرفون مضار هذه الحرّاقات والعمل فيها على صحتهم، إلا أنّهم يواصلون العمل، فالهواء الملوث ينتشر في المكان، والدخان الأسود الكثيف يملأ الجو، وهي غازات سامة، تؤثر على الجهاز التنفسي وتسبب الأمراض الجلدية، كما أنّها تؤثر على الحوامل والأجنة، وذلك بحسب إحصائيات من الهلال الأحمر الكردي(منظمة مدنية تابعة للإدارة الذاتية) في القحطانية/تربه سبي.
وصرّحت وندا سليمان مسؤولة قسم البيانات والإحصاء بمنظمة الهلال الأحمر الكردي لـ”نورث بريس” أنّهم وثّقوا مراجعة //643 حالة التهابات بالجهاز التنفسي السفلي، وذات رئة والتهاب قصبات، أما بالنسبة للالتهابات التنفسية العلوية فبلغت /619/ حالة، فيما بلغت حالة الأمراض الجلدية حوالي 164// حالة؛ أيّ أنّ مجموع الحالات بلغت /1426/ حالة مرضية منذ بداية العام.
كما أكدت سليمان أنّ معظم الحالات هي من المناطق الجنوبية، ومحيط منطقة الحرّاقات، وترى أنّ للحراقات تأثيراً كبيراً في ازدياد هذه الحالات.
وحصلت “نورث بريس – NPA”على إحصائيات المنظمة من قسم التوليد، وتقول الإحصائية بحصول حوالي سبع حالات إجهاض، وحوالي خمس حالات تشوه جنيني وحوالي خمس إلى سبع حالات إسقاط مبكر وسطياً كل شهر.
وتعزي المنظمة ازدياد الحالات وكثرتها إلى الجو الملوث حيث الحراقات تملأ بأدخنتها الكثيفة الأجواء، وخاصة القرى الواقعة بالقرب منها.
ويؤكد الدكتور دانيش محمود حاجي إبراهيم/ دراسات عليا في أمراض الدم والأورام في تصريح لـ”نورث بريس” أن زيادة حصلت في نسبة الأورام الشائعة، خاصة في المناطق الشرقية (أي مناطق القحطانية/تربي سبي – وحتى باتجاه المالكية/ ديرك) وبنسبة ملحوظة في مدينة القحطانية/تربي سبي وريفها، وبالتأكيد فإن للمواد الكيماوية والسامة دور كبير في هذا الأمر.
ويؤكد الطبيب الذي عمل في مشفى البيروني بدمشق أيضاً أن للحراقات دوراً كبيراً “فبإمكاننا القول أن النسبة زادت خمسين في المائة عما كان موجودا في المنطقة قبل ظهور الحراقات فيها”.
وعن نسبة الإصابات في منطقة تواجد الحراقات والمقارنة مع المناطق الأخرى قال الدكتور دانيش “في حساب بالنسبة المئوية أننا يمكن أن نقول أن “نسبة /60/ إلى /65/ بالمئة من الإصابات في المنطقة الشرقية، وأن /20/ بالمئة من المنطقة المحلية؛ أي من القامشلي، فيما يمكن عد /15/ بالمئة هم من مناطق دير الزور والرقة والشدادي، وقد يكون لعوامل التلوث الجوي هناك أو التكرير غير الجيد للنفط سبباً، لكن لا يمكن جزم الأمر”.
وبحسب محمد علي هجو (60 عاماً) من قرية البشيرية حيث تعد التجمع السكاني الأقرب للحراقات، فإن أدخنة الحراقات تؤثر عليهم بشكل كبير، حيث يقول لـ””نورث بريس”: لقد تأثر الزرع وتأثرت القرية بهذه الحراقات فقد أخذنا أربع حالات من القرية إلى دمشق وقد تم تشخيص المرض الخبيث لديهم (قاصداً السرطان)”، ويلقي الرجل الستيني باللوم على الحراقات والتي تزداد خطورتها في الصيف ويقول “لقد متنا، متنا جراء هذه الحراقات”.
ولوحظت آثار السواد على حيوانات القرية وكذلك حقول القمح، وتزداد خطورة استنشاق الدخان الذي ينبعث منه غاز ثاني أكسيد الكبريت في فصل الصيف، وخاصة أنّ القرويين ينامون في باحات المنازل.
القرى المجاورة لا تتقدم بشكاوي حقيقية وجادة، وذلك أنهم يجدونها فرصة عمل، يعملون فيها كعمال وحراس، ويستثمرون أراضيهم، وهذا ما يجعلهم يصمون آذانهم عما يقضّ نومهم صيفاً ويحمل سحب سوداء على قراهم، ويصبغ حقولهم وأغنامهم بالأسود.
البطالة
ويبدو أن العاملين في الحراقات باتوا يعرفون أن لهذا العمل والاحتكاك مع المواد النفطية ومخلفاتها تأثيرا مباشرا على صحتهم، حتى وإن كانوا لا يعرفون تفاصيل هذه الأضرار، ويبدو أن الكثير منهم يفضل عدم معرفة التفاصيل ويصم أذنيه، ويفضل عوض ذلك الحصول على مرتّبه نهاية العمل لينسى التفكير في هذه الأمور.
علوان سليمان (60 عاما) ويعمل حارساً لدى إحدى الحراقات، وهو من سكان قرية البشيرية القريبة من الموقع، ويقبض 25 ألف (50 دولار) في الشهر الواحد، يقول لـ”نورث بريس”: “نحن نعلم أنّها مضرة لنا، لكننا نضطر للعمل، فلا يوجد عمل ولا مردود مادي”، ويبدو أن علوان يدرك تأثير هذه الحراقات على البيئة والحيوانات والزرع فيقول بمنطق الذي يكظم معرفته التي توجعه “إنها تؤثر على البيئة والحيوانات، فحيواناتنا تحكّ نفسها ما يعني إصابتها بالجرب، وتلونت بالأسود نتيجة لذلك” ولا يخفي علوان تأثر الحقول بهذه الأدخنة حيث يشير لنا بيديه على حقل بمحاذاة الحراقات ويقول “انظروا كيف صار الزرع” يقصد أنها ضاربة إلى السواد.
ويوافقه محمد (25 عاماً) وهو أيضاً من سكان البشيرية “نعرف أضرارها وأنها مليئة بالأمراض، إلا أن نسبة البطالة عالية، عالية جدا، فلولا الحراقات فبماذا نعمل” ويكسب محمد 20 ألفاً (36 دولار) مناصفةً مع عامل آخر، حيث يعملان على الحراقة، ويقع مجهود العمل والتعامل مع النفط الخام ومشتقاته فيما بعد على عاتقهما، ويحصلان على هذا المبلغ في عملية التكرير الواحدة والتي تستمر من عشرين إلى ثلاثين ساعة أحياناً.
وتعمل مئتا حراقة في تجمّع الحراقات هذا ويعمل على كل حراقة عاملا حراقة وحارس ومشرف عمل والذي يكون عادة مستثمر الحراقة أو وكيل عنه، وذلك بحسب سعيد خلف (55 عاماً) مستثمر أحد الحراقات.
وبعملية حسابية بسيطة يمكن معرفة أنّ ما لا يقل عن 400// عامل يشتغلون على هذه الحراقات ويحتكون بها بشكل مباشر، حيث لا يستخدمون أية وسائل حماية أو وقاية أو حتى كمامات، وفي الجولة الميدانية التي قامت بها NPA فإن النيران إذا ما شبت ليس هناك ما يوقفها أو يطفئها، ولم يلاحظ أية تدابير وقائية سواء من قبل العاملين أو الحراس والمستثمرين أنفسهم.
وتقوم الآليات بحمل بقايا ومخلفات الحرق والتي تبلغ حوالي ثلاثة أطنان وإلقائها في أحد المقالع، حيث يقول جاسم محمد (28 عاما) “نزيل حوالي ثلاثة أطنان(من الحراقة الواحدة بعد كل عملية تكرير) ونرميها في مقلع بكري بري وحين يمتلئ نضع عليه طبقة تراب حوالي مترومن ثم نردمه”.
حلول ناقصة
ويبدو أنّ الحاجة إلى المشتقات النفطية تفوق الالتفات إلى مضار عمليات التكرير هذه والتي تؤثر على الإنسان بشكل كبير، إضافة إلى البيئة، والحيوان والنبات، فإذا ما اعتبرنا كتقدير وسطي أن كمية المخلفات والبقايا النفطية هي //600 طن خلال يومين لمئتي حراقة، فستعلم مدى الخطورة البيئية التي تتركها، حيث أنّ الطمر لا يقي من تأثيراتها على البيئة المحيطة كما تفيد الدراسات البيئية.
وبحسب هيكلية الإدارة الذاتية فإن البلديات تشمل مركز تطوير البيئة والبلديات، وترفع شعار الإيكولوجية (فلسفة علم البيئة وترى البشرية بوصفها واحدة مع الطبيعة)، إلا أن البيئة تبدو الأكثر انتهاكاً ولا سيما فيما يتعلق بموضوع الحراقات.
وفي ردها على موضوع الحراقات والحلول المقترحة، أشارت المهندسة مروة رياض عباس الرئيسة المشاركة لمديرية البيئة في “مقاطعة قامشلو” (إدارة تضم مدينة القامشلي والبلدات التابعة لها)، إلى ضرورة واحتياجات الناس لتوفير الوقود سواء للسيارات، للتدفئة والأفران، وأنهم إذا ما أوقفوا هذه الحراقات فسيكون هناك أزمة وقود.
عباس صرحت لـ”نورث بريس” أنهم أرادوا نقل الحراقات وتجميعها في مكان واحد، وأنهم وجدوا أرضا مناسبة وبمعايير أقل ضررا للبيئة وبعيدة عن التجمعات السكانية، حيث أنها كانت تربة ملحية، إلا أنهم في مديرية البيئة لم يلقوا استجابة لطلبهم.
عباس قالت أيضا أنهم أصدروا تعميما في الثاني وعشرين أيلول/سبتمبر 2018 يقضي بفرض وضع شعلة على كل حراقة للتخلص من غاز ثاني أكسيد الكبريت، كأحد الحلول للتخفيف من أضرار الغازات الصادرة من هذه الحراقات.
وتأخذ مديرية البيئة ضريبة بقيمة /15/ ألف (27 دولار) عن كل حراقة تصفي /130/ برميلاً، حيث يوجد لديهم مكتب للبيئة في القحطانية/تربي سبي يقومون من خلاله بمتابعة جبي هذه الضريبة.
وخلال جولة “نورث بريس-NPA” الميدانية في تجمع الحراقات لم يتم ملاحظة هذه الشعلات، حيث تم توثيق المكان بالصور والفيديو.
يبدو أنّ تكرير النفط بالطرق البدائية سيستمر طالما أنّ المشتقات النفطية لا تأتي إلى المنطقة ولا تتوفّر فيها، لذا يصم الجميع آذانه عن المسألة، وذلك أنّها توضع في الميزان مع مدى احتياج المجتمع له، وفي ظلّ غياب دراسات حقيقية لواقع هذه الأضرار وتوعية الأهالي بها سيكون من الصعب تخيّل ناقوس الخطر وهو يقرع، ويبدو أنّ أمور متعلّقة بالشأن العام والبيئة ستبقى نافل القول والفعل في الواقع المعاش، ولن يضع أي أحد في أولوياته حلّ مثل هذه المشكلات، طالما أنّها تجلب الكهرباء وتحرك السيارات.
نُشر التقرير بتاريخ: 19-04-2019، في موقع وكالة نورث برس، بالإمكان قراءة التقرير من المصدر، عبر النقر على هذا الرابط