نفي الآخر، وسلطة اللاتنوّع
عباس علي موسى/ نُشرت المقالة في موقع ضفاف نت، بتاريخ 10.07.2023
التنوع الثقافي
تمتاز الجغرافيا السوريّة بالتنوع الثقافي من نواحٍ عدة، ففضلاً عن التقسيمات الإدارية المعتمدة.
كُنّا، نحن، في الجزيرة (هذه التسمية سنستخدمها للدلالة على محافظة الحسكة، وسترد في المقال كموازٍ لها) نعرف ثلاث مناطق جغرافيّة (الساحل والداخل والجزيرة). عرفنا هذه التقسيمات منذ الثمانينات، على الأقل كما أذكر، ولم أحاول البحث في الأمر إن كان يمتدّ إلى تاريخٍ قبل هذا. لكن المؤكّد أنّها تسميّة تعزّزت مع قدوم و إيفاد المعلّمين والمدرّسين من المناطق الأخرى إلينا. نتيجة نقص الكادر التعليمي بعد افتتاح المدارس في معظم مناطق الجزيرة عموماً.
فأهل الداخل- في سياق كلامنا هذا – تدلّ على أهالي الشام وحلب بشكل أساسي. وربّما حمص وحماة وغيرهما، بينما كانت تسمية الساحل أكثر وضوحاً، فهي تخصّ أهالي اللاذقية وطرطوس حصراً. من الذين امتلكوا ذاكرةً مع الجزيرة حين قدموا إليها مدرّسين و معلّمين.
هذا التنوّع الجغرافي، كما عرفناه، كان مدخلاً لتنوّع أكبر وأعمق. فهم يتحدّثون لهجات غريبة عنّا، لم نعهدها في الواقع، خاصةً لهجة أهل الساحل. بينما أخذ الأمر منحىً أخر مع الشام (دمشق) ولهجتها. لتتعدى كونها لهجة لتصبح أقرب إلى لغة مستقلّة ،هي لغة التلفزيون؛لغةٌ باشويّة فوقية أو هكذا كنا نراها.
التنوّع كنقمة
في الجزيرة ثمة إختلافات وتنوّع في مستويات عدة. فالكُرد إثنية، ولهم لغتهم الخاصة. و السريان الآشوريون إثنية أخرى، لهم لغتهم وديانتهم الأخرى (المسيحية) أيضاً. حتى العرب فيها كانوا مختلفين عن أبناء جلدتهم من أبناء المناطق الأخرى، فهم ذوو لهجة مختلفة عن تلك اللهجة الشامية أوبقية لهجات سوريا. ينسحب الأمر على الأرمن والشركس والإيزيديين والتركمان، فلكلّ لغة أولهجة أغانيها وأهازيجها وأمثالها وتعابيرها التي تخلق ثقافات مختلفة.
لم يحصل للتلفزيون السوري طيلة عقود أن أدخل مفردة كردية أو سريانية (غير طقسية) أو أرمنية أو شركسية إلى حديث أو حوار في برنامج. أو أنه أذاع أغنية كردية أو آشورية مثلاً. بل كُنّا نحن – كل مكوّنات الجزيرة وش
عبها – عبارة عن 30 دقيقة ضمن برنامج أسبوعي وحيد “في رحابِ الجزيرة”. يتكلم مذيعوه بلهجة جزراوية، نعم، لكنّها لا تنقل هواجسنا أو تقترب من الطريقة التي نبرّ ونعقّ بها والدينا، من التي نحب ونكره ونعشق ونبغض بها، التي نهذي بها في اليقظة والحلم.
حتى اللهجة العربية التي يتحدّثها عرب المنطقة بعيدة عن اللهجة الشامية (الباشويّة)، التي اجترحها التلفزيون السوري. تلك اللهجة الفوقية المرتبطة في أذهاننا بالدولة كمفهوم مركزي وكذلك بالرقي والتقدّم. وحتى حين يعرض التلفزيون أفلام ومسلسلات الدراويش والبيئات الشعبية (كأعمال دريد لحام، غوّار الطوشة، مثلاً) نراهم في مكان أعلى نوعا ما. ويبدون قادمين من عالم أخر، عالم التلفزيون الذي لا يمثّلنا ولا يعكس واقعنا و تنوّعنا الذي نعيشه.
وهكذا لم يكُ هذا التنوّع سوى وبالٍ على أهله، ففي حين تحوّلت اللهجة العربية إلى مادة للكوميديا السوريّة عبر مسلسلات كبقعة ضوء وغيرها. فإنّ السريانية لم تحظى بفرصة التعبيرعن نفسها كلغة قومية موجودة أو أن تخرج عن الطقوس الكنسية التي اختصروها بها.
كان الأمر أشدّ وطأة بالنسبة للكرد، حيث أنّ لغتهم ممنوعة مقصيّة لدرجة الزج في السجن لكلّ من يعلّمها أو يعمل على نشرها. خوفاً من تداخل الشأن السياسيّ فيها مع اليوميّ.
سطوة اللاتنوّع
حين تسلّم حزب البعث ” قيادة الدولة والمجتمع” كما تقول المادة الثامنة من دستور عام 1973 . والتي نصّت على أن “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية”.
كان ينتقل عبر هذه الأيديولوجيا من الشعاراتية إلى الواقع. فالحزب المتأثر بالشوفينيات العالمية ولا سيّما أفكار النازية والفاشية. ووهم التقدّم الذي قاده أمثال كمال أتاتورك، حين جنح مع الحركة التقدّمية التي قادها إلى نسف كلّ تنوّع، وقمع كلّ لغة وثقافة مُغايرة. و بنى دولته التي يتغنّون بها إلى اليوم على قمع كل آخر مختلف.
لا يُمكن تبرئة حزب البعث من هذا التوجّه، فقد استخدم سلطتّه في سبيل تسييد العربيّة ثقافةً ولغةً وتاريخاً على حساب اللغات والثقافات الأخرى. التي قمعها ومنعها أوعلى أقل تقديرعدم فسح المجال لها للتعبير عن نفسها.
فالسلطة الحاكمة تبنّت مبدأ المركزيّة في كل شيء، انطلاقاً من السياسة مروراً بالثقافة وصولاً لليوميّ والمُعاش. كانت المركزيّة تعني نسف التنوّع الثقافي كاملاً، وكان للإعلام دور مركزي في ذلك. فعلى مستوى الإذاعة والتلفزيون لم يتم ذكر التنوّع السوري والإضاءة على جوانبه المختلفة إلا عبر فلاتر ورقابات كثيرة أبعد ما تكون عن بناء ثقافات مختلفة موازية للعربية.
من نافل القول أنّ العربية نفسها التي اختارها لم تكن لتسمح بالتمرّد على السلطة. بل هي عربيّة مبنية وفق قياسات موحّدة، لا يستطيع الجميع لبسها. لذا كان الكثير منهم يفقد أجزاء منه حين يدخل عنوة هذا اللبوس، فتبتر أصابعه، وأحياناً قدمه، وكلّ الزوائد التي لا تشبه الثوب ذاك.
لذلك فإنّ التنوّع السوري اللغوي والثقافي لم يكُ سوى مدعاة لتخوّف وقلق السلطة الحاكمة. وعوضاً عن أن يلجأ إلى تبنّي التنوّع كقيمة وإثراء للحالة الوطنيّة، ويبني على أساسها هويّة وطنية متنوعة و غنيّة. راح يقمعها ويضيّق الخناق عليها بشتى الوسائل والسياسات التي تبدأ من الإنكار والإهمال، ومن ثم التضييق والقمع وصولاً حتى السجن والاعتقال.
إدارة التنوّع الثقافي، والهوية الوطنية
إنّ ظروف الصراع التي مرّت بها سوريا ولا تزال. أفرزت الكثير من الأمور، وكشفت أنّ السوريين لا يعرفون بعضهم البعض. وكشفت معها أنّ سياسات الإنكار وقمع التنوّع أدت إلى خلق مجتمعات محلية منفصلة.
لكن، ولأنّ إحدى إيجابيات الصراع السوري القائم أنّه كان في جانب منه ثورةً تسعى إلى التحرّر على مستويات مختلفة ومنها المستوى الثقافي.
ولأنّ هذه السنوات أفسحت الفرصة لبروز الهويات الثقافية المغيّبة، الغنية والمتنوّعة، فإنّها طرحت السؤال الأهم:
عن إمكانية أن تكون هذه الهويّات مساهمةً في تكوين هويّة وطنية جامعة. ولكن الأمر ليس بتلك السهولة وهذا أمر متفق عليه.
إنّ تدارك إدارة التنوّع الثقافي تأتي في عدة مستويات. ربما يكون أحد أهمّها، إدراج بنود دستورية تُساهم في خلق بيئة قانونية وعمليّة لاحقا، تدعم اللغات والثقافات المختلفة. كإفساح المجال للغات المختلفة لأن تك
ون لغة تعلّم في المناهج الدرسيّة بصيغ توافقية. وإقرار تلك اللغات بدرجات معيّنة في مختلف القطاعات، كأن تكون مدعومة في الإنتاج التلفزيوني والسينمائي وشتى الفنون، وفتح قنوات ببث مشترك وقنوات خاصّة.
ربما سيكون من الجيّد لتعزيز الحالة الوطنية، أن يتم دعم تلك اللغات والثقافات على المستوى المؤسّساتي. فيتم بناء مؤسسات تعتني بها وتطوّرها وتربطها بحركة العصر على غرار مجمع اللغة العربية. والعمل على إفشاء فكرة التنوع الثقافي وتضمينها في المناهج التعليمية وغيرها.
من شأن التنوّع الثقافي أن يكون رافداً للحالة الوطنية إذا ما تم التعامل معه بإيجابية وانفتاح. ويستطيع أن يكون لاحقا ً مدماكاً مهماً في بناء هوية وطنية سوريّة جامعة. ذلك إذا ما تم بناؤها من الأعلى، بدءاً من الدستور والمؤسسات التشريعية، نزولاً إلى المناهج والمدارس والإعلام وغيرها. في هذه الأثناء يكون الدور الأكبر مرهوناً بالنخبة الثقافية، التي تتصالح مع هذا الواقع، ومع فكرة أنّ التنوّع غنىً و مفتاح يقودنا صوب المستقبل.
تجربة التنوّع
لا يُبارح ذاكرتي صوت المذيع طارق حمدان وهو يتحدّث عن ثيمة التنوّع في الجزيرة. و يسرد للمستمعين في إذاعة مونت كارلو الدولية عن كرنفالات ثقافية (غناءٌ، شعرٌ، ودبكات فلكلورية) لتبدو الجزيرة كأنها سوريا بصورة مصغّرة.
لقد طوينا أكثر من عقدٍ منذ هبّت ريح التغيير على هذه البلاد. هذه التجربة المخضّبة بالدماء ساهمت في رؤية السوريين لبعضهم البعض، أو البحث عن بعضهم البعض والنبش في الماضي والحاضر.
الآن بات السوريّ ـ الذي كنا نراه آخر ـ سواء كان من الداخل أو الساحل، الجنوب أو الغرب أو الشمال يعرفُ الجزيرة، ويستطيع أن يتجوّل في رحابها ويتعّرف على تنوّعها. أصبح بالإمكان رؤية اليافطات مكتوبةً بلغاتٍ ثلاث في مداخل المدن وبواباتها ترحّب بالزائرين بلغات أهلها. وبروح أهلها، وأصبح بالإمكان سماع أغانٍ بلغات ولهجات متنوّعة، متنوّعة بما يُشبه وجه الجزيرة الحقيقي و الغني. وجه سوريا الجميل.
نُشرت المقالة لأوّل مرّة في موقع ضفاف. نت بتاريخ 10.07.2023