نزوحٌ ثقافيٌّ

مشاركة بنداروك في معرض هركول المحلي للكتاب

نزوحٌ ثقافيٌّ “النّزوحُ ليسَ مقتصراً على الإنسانِ وحدهُ، بل ثمّة نزوحاً ثقافيّاً أيضاً”

عباس علي موسى

قبل عامٍ من الآن؛ وفي فترةٍ قريبةٍ من هذه الفترة، افتتحتُ أنا والصّديق عبد الله شيخو (كاتبٌ ومترجمٌ) مكتبةً ثقافيّةً عامّةً في مدينة القامشلي باسم بنداروك (وتعني المكان الخاصّ بالنّزهة)، وحين الافتتاح الرّسميّ للمكتبة كان هناك لغطٌ في الشّارع والسّياسة العالميّة بخصوص إعلان الانسحاب الأمريكيّ في نهاية كانون الأوّل 2019، لكنّنا مع كلّ ذلك افتتحنا المكتبة وكانت حينها حدثاً ثقافيّاً لافتاً في وقتٍ اشتدّت فيه لهجةُ وحدّةُ التّهديدات التّركيّة، التي لم تُترجم حينها على أرض الواقع، وكانت مقولتنا حينها “الثّقافة خبزنا، إن توقّفت الأفران سنتوقّف نحن أيضاً”.

بنداروك ليست مجرّد مكتبةٍ، بل هي باختصارٍ صالونٌ ثقافيٌّ، أجرينا فيها على مدار عامٍ عشرات جلسات النّقاش الثّقافيّة، حول الأدب واللّغة والثّقافة، وعقدنا فيها أنشطة قراءة قصص للأطفال، وأتحنا فيها كتبنا جميعها مجاناً للقراءة، وشاركنا في معارض الكتب المحلّيّة، ووزعنا فيها كتباً مجانيّةً للقرّاء أيضاً.

اليوم ستنهض المكتبة التي تضمّ أكثر من أحد عشرة ألف كتابٍ، وتضمّ جناحيها كأيّ نسرٍ جريحٍ، وتغُلق دفّة الكتب، ولن أنسى مشهد عامل أحد المحالّ المجاورة والذي قال “لا أفهم شيئاً من الثّقافة ولا أجيد القراءة بالكرديّة، لكن هذا الذي أراه شيئاً مذهلاً”، حيث لم يسبق للكثير من النّاس الكرد أن رأوا كتباً بلغتهم في رفوف مكتبةٍ عامّةٍ.

المكتبة ككيانٍ ثقافيٍّ

إنّ المطالب السّوريّة في الاحتجاجات السّلمية منذ بدايات الحراك الشّعبيّ لم تكن مجرّد مطالب إصلاحٍ اقتصاديّةٍ ومرتبطةٍ بالخبز وحده، لكنّها كانت مطالب ذات طابعٍ هوياتيٍّ ومتعلّقة بالحرّيّات السّياسيّة والفكريّة والثّقافيّة.

بالنّسبة للكرد كانت هناك مطالبٌ على مستوياتٍ عدّةٍ متقاطعةٍ مع مطالب النّخبة السّوريّة، إضافةً إلى خصوصية مطلبيةٍ سياسيّاً وثقافيّاً، وكان لسنوات القمع اللّغوي الهوياتيّ للكرد دور في التّركيز على ظاهرة انتشار الكرديّة والتّركيز عليها أكثر والكشف عنها كمنتجٍ ثقافيٍّ معبّر عن الكرد في كينونتهم واختلافهم، لذا كان لحضور الكتاب باللّغة الكردية في قلب المدن ذات الغالبية الكرديّة دورٌ في تثبيت هذا الدّور.

اليوم ستنهض المكتبة التي تضمّ أكثر من أحد عشرة ألف كتابٍ، وتضمّ جناحيها كأيّ نسرٍ جريحٍ، وتغُلق دفّة الكتب، ولن أنسى مشهد عامل أحد المحالّ المجاورة والذي قال “لا أفهم شيئاً من الثّقافة ولا أجيد القراءة بالكرديّة، لكن هذا الذي أراه شيئاً مذهلاً”، حيث لم يسبق للكثير من النّاس الكرد أن رأوا كتباً بلغتهم في رفوف مكتبةٍ عامّةٍ.

في السّابق كان من الممكن أن يتمّ اعتقالك لمجرّد اقتناءك لكتبٍ كرديّةٍ، أو بيعك لها أو حتّى تداولها، فضلاً عن طباعتها ونشرها، كان هذا القمع والمنع صارماً من قبل أجهزة الأمن، وهذا ما أدّى إلى عدم توفّر سوقٍ للكتاب الكرديّ خاصّةً.

هنا أتذكر أنّ أوّل كتابٍ حصلت عليه بالكرديّة كان قاموساً لغويّاً، حصلت عليه في دورةٍ تعليميّةٍ للغة الكرديّة في الجامعة سرّاً بعد أن كنت الأوّل على المجموعة، وأتذكر كيف أنّني كنت أفكر طيلة فترة اعتقال صديقين لنا بتهمة طباعة ونشر مجلّةٍ كرديّةٍ كيف يمكن أن أحتفظ بالكتاب دون أن يُداهم الأمن غرفنا الجامعيّة.

في المكتبة لم يكن الأمر على هذا النّحو فقط، بل كان ثمّة كتباً أخرى منوعةٍ بالعربيّة والإنكليزيّة أيضاً، فكان ثمّة كتباً في النّسويّة والأدب والتّاريخ، وكتباً في نقد الدّين والسّياسة.

نزوحٌ ثقافيٌّ

اليوم مساءً ذهبت باتّجاه المكتبة كان هناك عشرات الكراتين الفارغة، وكان صديقي عبد الله شيخو جالساً على الأريكة، يبدو من الكركبة التي تركتها كراتين الدّخان الفارغة التي نستعملها لنقل الكتب أنّهم بدأوا بتوضيب الكتب.

نُجري حواراتٍ مقتضبةٍ حول الوضع، ومصيرنا الثّقافيّ، إذ أنّنا نحن المأخوذون والحالمون بالحرّيّة، والحرّيّة الثّقافيّة والفكريّة، كانت السّيناريوهات هو النّزوح بكتبنا إلى مكان ما، فهذه الكتب، ليست مرغوبةً للنظام السّوريّ باعتبارها كتباً كرديّةً في معظمها، وليست مرغوبةً للنظام التّركيّ لذات السّبب ولا المعارضة السّوريّة على اعتبار أنّ جزءاً كبيراً من هذه الكتب هو ذو توجّهٍ تحرّريٍّ وتحكي عن الكرد.

منذ أيامٍ ونحن نخطّط للذهاب بها إلى مكان ما، لكن اكتشفنا أنّ الذّهاب بمجموعة كتبٍ كبيرةٍ في هذه الظّروف غير متاحٍ (نمتلك حوالي عشرة آلاف كتابٍ)، ثمّ تواصلنا مع صديق لنا من مدينة ديرك/المالكية لكنّه ردّ علينا بأنّ وضع المدينة غير واضحٍ والنّاس في خوفٍ، فقرّرنا في النهّاية وضعها في أحد المستودعات في المدينة، وكانت مقولتنا الأخيرة في مؤدّاها “سنضعها في هذا المستودع وإن جاء كائنٌ من كان، لن نستطيع حينها فعل أيّ شيءٍ، سنتركها، فلها ربّ يحميها”.

لم ننزح نحن إلى الآن، نحن الذين نَعُدُّ أنفسنا نشطاء ثقافيّين، لم ننزح بأجسادنا ولا بكتبنا وأحلامنا، لا أعرف إلى متى سنظلّ هكذا في الحيرة ذاتها، لكن الواضح أنّ “الثّقافة خبزنا” لن تتوقّف، لكنها قد تزيح بنفسها.

الأجمل إلى هذه اللّحظة هو عبق الكتب الكثيرة بلُغتنا التي حُرمنا منها سنواتٍ طويلةٍ، والتي عرضناها في رفوفٍ أنيقةٍ للقرّاء دون أن نخاف عناصر المخابرات، والأصعب هو توضيب ذات الكتب في كراتين وإيداعها في مستودعاتٍ خوفاً من مجهولٍ قادمٍ، أو النّزوح بها إلى مكان ما.

نشر المقال في مجلة صور، للانتقال إلى الرابط اضغط هنا

https://www.suwar-magazine.org/articles/2024_%D9%86%D8%B2%D9%88%D8%AD-%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.