أزرق
أزرق
قصة قصيرة/ من مجموعة “شامبو برائحة التفاح”
عباس علي موسى
أنا املك أربعةَ جدران، ومطبخا وحمّاما صغيرا، أعملُ حتى المساء، وحين أعودُ من العمل مُنهكا أنام ولا أُحسُّ بشيء حتى يُجنَّ المنبه، صبيحة اليوم التالي، ليوقظني من موتي السينمائي، حيثُ أحلامي المبعثرة والمشوشة.
اليوم وعلى غير العادة، حين استيقظت صباحا، قررتُ ألاّ أذهبَ إلى الـعمل، كـأنّه إرادةٌ مني لِكـسر
شيءٍ ما، ومع أنّه يبدو شيئا صغيرا إلاَّ أنّني أحسستُ بقوةِ الكسر كأن أكسر كأسا.. مثلا.
منذ أربعةِ أشهر متواصلة من العمل، لم أحظَ بإجازةً واحدة. فقط عملٌ، حتى أنني نسيت معنى الفراغ، حين وجدتُ نفسي جالسا لا أودُّ الذهاب، فكرتُ بجولاتٍ كثيرة يمكنني القيام بها في هذا اليوم العاقّ. وضعتُ مشاريع كثيرة وزياراتٍ أكثر لأماكن محددة . لكنني حِرتُ بين رُكام هذه المشاريع التي تستهلك مني شهرا كاملا، أخيرا قرّرت ألاّ أذهب لأي مكان.
وضعتُ إبريقَ شاي ممتلئ حتى التخمة، بجانبي، وبدأتُ بسكبِ الشاي: الكأس الأول.. فالثانية ..فالـــْ….. ولم أعرف الرقم الذي انتهى عنده العدُّ، إلاَّ أنّه كان قعر الإبريق .
لم أفكر أثناءه بشيءٍ ذي بال، وحتى المساء كنتُ قد قتلتُ الوقت بأبسط الأمور، وعندما حان وقتُ النوم لم أستطع!.
لأوّل مرة أُحسَّ بالمساء وبضجيج الوحدة فيه، ليلتها لم أستطع أنْ أنام، تقلّبتُ في الفراش مِرارا إلّا أنّ الإحساس بالفراغ اخترقني، فبدأتُ أُحسّ بأشياء الغرفة البسيطة؛ بالصور الملصقة بعناية والأشياء الملقاة بإهمال. وبشيء آخر يطرق السقف، يجتازه بهدوء، هناك في الأعلى حيثُ من يشاطرني المساحة ذاتها في هذا الامتداد حيثُ سقفي أرضيةٌ لأحدهم .
خطواتٌ هادئةٌ تمرُّ تك..تك…تك…..
كمرور الثواني
لأوّل مرة أُحسَّ بالمساء وبضجيج الوحدة فيه، ليلتها لم أستطع أنْ أنام، تقلّبتُ في الفراش مِرارا إلّا أنّ الإحساس بالفراغ اخترقني.
حاولت أن أُخمّن بأي اتجاه تعبرُ الخطوات، راقبتُ الصوتَ بعينيّ مركزا نظري على الخط المارّ بهندسةٍ مشوّهة، إنّها باتجاه المطبخ، ربما هي محاولةٌ لشربِ ماء، أو ربما لإغلاق صنبور، أو إطفاء ضوء شارد.
“يا لليدين الرشيقتين الجميلتين! اللتين تقاسماني هذا المساء، أصابعها الرشيقة تحملُ كأسا مُحجّرة الأطراف، تملؤها من البرّاد، وفيما تشرب ينزل الماء بسلاسةٍ إلى الحنجرة”.
تعودُ الخطواتُ تلك من المطبخ، أرقبها بتركيزٍ – إلى أين الآن؟
تك..تك..تك….كمرور الثواني، صوت تلكؤ خفيف، أكادُ أسندها لئلاّ تقعَ. ثمة إحساسٌ جميل بالحياة، حين أراها تمرّ على السقف الذي لا أرى فيه نهاية غرفتي؛ لأنّه ثمة من يقاسمني إياه، ويبعث فيه الحياة. تعبرُ الخطوات إلى غرفة النوم، تمتدّ أصابعها لإطفاء النور، تبقى عيناها مفتوحتين تماما، لا تستطيع أن تنام، يؤرقها شيءٌ ما. تُراقب، هي الأخرى السقف لتسمعَ خطواتِ أحدهم على السقف، ربما!.
لو أنّها تستطيع أن تسمعَ خطواتي، لو أنّها ترقبُ أسفلَ منها بدلا من السقف لدندنتُ لها بأناملي لحنا جميلا، لحنَ الماء.. لحن الأزرق…لحنَ الكؤوسِ وهي تُشطفُ بالماء، ويكون العالمُ عندها لانهائيا، تُحسّه متداخلا كالمرايا، وغائرا في قعر إحدى الكؤوس.
لو أنّها تستطيع أن تسمعَ خطواتي، لو أنّها ترقبُ أسفلَ منها بدلا من السقف لدندنتُ لها بأناملي لحنا جميلا، لحنَ الماء.. لحن الأزرق…
تتراكمُ على رأسي جبالٌ من الكؤوس المتسخة، أغطسها بالماء غير المتناهي، أقومُ بالجلي دون أن تنتهي، فلا أرى شيئا سوى البلّور والماء.
في اليوم التالي حين ذهبتُ إلى العمل، في نهاية المساء لم أعد إلى غرفتي، بل إنّ المياه البلورية ابتلعتني. دخلتُ قعر أحد الكؤوس، حين حمله أحدهم وجدها ثقيلةً، سقط من يده وتهشّمت إلى آلاف الشظايا.
مساء ذلك اليوم كانت الخطوات تعبرُ مرّةً أُخرى باتجاه المطبخ: تك..تك..تك…كمرور الثواني، تحملُ بأصابعها الرشيقة كأسا، وتملؤه من البراد ماءً، حين تدنيها من شفاهها تسقط من يديها وتتشظى إلى آلاف الشظايا.