دولة (داعش) في الهول.. تصفيات ومواقع تعذيب وكتاتيب للمتشددين وفصل بين الجنسين
الثارات والأحكام العشائرية والرفض الشعبي يبقي غالبية العراقيين في مخيم الهول
عباس علي موسى وفريق من الصحفيين السوريين
تم نشر هذا التحقيق وفق مذكرة تفاهم بين مجلّة صُوَر وشبكة “نيريج” للتحقيقات الاستقصائية، وصحيفة “العالم الجديد”/ أيلول 2022
تقضي نور (28 سنة) عامها الثالث مع طفلها وأمها في مخيم الهول جنوب شرق محافظة الحسكة السورية الواقعة شمال شرقي سوريا، وتحلم على الدوام بالعودة إلى حياتها الأسرية الهانئة وبيتها الذي لا يفارق مخيلتها في مدينة “حديثة” بمحافظة الأنبار غربي العراق.
لكنها تخشى، مثل نحو ثلاثين ألف عراقي آخر يعيشون في المخيم الذي يصفه مراقبون بأنه حاضنة الجيل الجديد لمقاتلي التنظيم، أن ذلك سيظل حلماً بعيد المنال، بسبب شقيقين لها انتميا لتنظيم داعش وتسببا باعتقال والدها وزوجها وشقيقها الأصغر في العراق، وتخلي جميع الأقارب عنهم، ولم يعد مسموحاً لعائلتها الصغيرة العودة إلى “حديثة” بموجب قرار عشائري.
“نعيش في هذا الجحيم، ولا نعرف خلاصاً” تقول بعيون دامعة وهي تفترش الأرض قرب خيمتها في القسم الرابع من المخيم، ثم تمسك بكم ردائها الأسود، وتروي كيف أن هذا اللون لم يكن معروفاً في منطقتها قبل أن يصل مقاتلو تنظيم داعش براياتهم السود، ويتحكموا بمصير المدينة ويقلبوا حياتها، وباقي أفراد أسرتها، رأساً على عقب.
“انضم شقيقي الأكبر إلى التنظيم في 2015، فتحول بيتنا إلى حلبة صراع بسبب غضب أبي منه ورفضه لما فعله، وبعد سنة لحق به أخي الصغير، فخشي أبي على حياتي، ووافق على شاب لا علاقة له بالتنظيم تقدم لخطبتي وزوجني إياه حتى دون أن يستشيرني” تقول نور ذلك، وكأنها تقرأ جزءاً من سيرتها الذاتية مكتوباً أمام عينيها بكلمات غير مرئية.
في 2016 اعتقلت القوات العراقية والدها وزوجها وشقيقها الأوسط بتهمة الانتماء للتنظيم، فيما كانت هي مع أمها قد انتقلت إلى الباغوز برفقة عشرات العوائل الأخرى، حيث استخدمهم التنظيم كدروع بشرية أو رهائن وفقاً لما تقوله نور، وهناك سمعت بأن شقيقاها المنتمين للتنظيم قتلا خلال المعارك “كنت حاملاً، وأمي مريضة وشهراً بعد شهر تضيق علينا الحياة دون أن نعرف ما يتوجب علينا فعله حتى اندلعت حرب تحرير الباغوز في 2019 ولجأنا أنا وطفلي مع أمي الى مخيم الهول”.
وبسبب صعوبة الحياة وقلة السلال الغذائية التي تصلهم، ولكونها المعيلة الوحيدة لأمها وطفلها، اضطرت نور للعمل مع إحدى المنظمات العاملة بالمخيم، وتلقت بإثر ذلك الكثير من التهديدات بالتصفية من قبل نساء أو رجال متشددين من مختلف أقسام المخيم متهمين إياها بالعمل لدى “جهات كافرة”.
ويشهد مخيم الهول الذي يصفه ناشطون بـ”دولة داعش الصغيرة”، عمليات قتل متوالية، تستهدف عادة أشخاص يتهمون بالتعاون مع إدارة المخيم أو أناس لا تتوافق توجهاتهم مع الفكر التكفيري الذي يسود في المخيم. وشهد الهول، بحسب مصادر الإدارة الذاتية لشمال سوريا، مقتل 44 شخصاً خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام 2022، بينهم 14 امرأة. وتم في الخامس من أيلول / سبتمبر الكشف عن تحرير ثلاث نساء مكبلات بالسلاسل وعليهن آثار تعذيب، فضلاً عن تحرير فتاة إيزيدية كانت محتجزة.
“كلما أشرقت الشمس، أشكر الله لأنني مازلت حية، المخيم مرعب وموحش جداً حين يهبط الظلام ويغرق كل شيء بالعتمة”، تقول بامتنان ممزوج بالخوف، مؤكدة أن عليها مواصلة العمل وتحمل كل شيء لإعالة طفلها، ووالدتها التي تحاول باستمرار مواساتها وبث الأمل في نفسها بإخبارها أن والدها وشقيقها وزوجها سيخرجون قريباً وسيقومون بنجدتهم، مع أنها تدرك في قرارة نفسها بأن ذلك قد لا يحدث أبداً.
نهضت من مكانها سريعا وكأنها تذكرت شيئا مُهمَّاً، وسارت بضع خطوات قبل أن تنحني لالتقاط دلو ماء بلاستيكي أحمر اللون، سقت به مجموعة من شتلات الباقلاء واللوبياء زرعتها في علب حليب معدنية وصفَّتها بواجهة الخيمة، تقول بترنيمة تشبه لحن أغنية عراقية حزينة “يا ليت الآمال تنمو بداخل الإنسان مثلما تنمو هذه الشلات”.
“كلما أشرقت الشمس، أشكر الله لأنني مازلت حية، المخيم مرعب وموحش جداً حين يهبط الظلام ويغرق كل شيء بالعتمة”، تقول بامتنان ممزوج بالخوف، مؤكدة أن عليها مواصلة العمل وتحمل كل شيء لإعالة طفلها، ووالدتها التي تحاول باستمرار مواساتها وبث الأمل في نفسها بإخبارها أن والدها وشقيقها وزوجها سيخرجون قريباً وسيقومون بنجدتهم، مع أنها تدرك في قرارة نفسها بأن ذلك قد لا يحدث أبداً.
مثل مئات العائلات العراقية اللاجئة في المخيم، تحيط نور نفسها وعائلتها بأسوار عديدة، وتتجنب مخالطة معظم جيرانها، وتحرص أن تظل صامتة، خوفاً من أن ينقل أي كلام عنها لا يعجب المؤمنين بفكر داعش، إلى مسؤولين يحكمون المخيم باسم التنظيم، ويصدرون فتاوى التكفير وأوامر الانتقام والقتل.
وصفت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في حزيران / يونيو الوضع في المخيم بأنه “كارثي”، مشددة على توفير “مساحة آمنة” إضافية لحماية النساء والفتيات من الهجمات.
يؤكد موظف إداري في الهول، رفض ذكر اسمه، أجواء الرعب التي يشهدها المخيم، خاصة في بعض أجنحته. ويقول إنها بمثابة واحة لنمو الفكر المتشدد “هنا كل شيء يغذي غول العنف الذي يتغلغل في نفوس الأطفال. يجب أن يتوقف ذلك، وأن يتم تفكيك المخيم، لكن كيف والدول الأخرى بما فيها العراق ترفض استقبال مواطنيها”.
ويضيف: “العراقيون يشكلون ثلاثة أضعاف السوريين هنا، وهم يعيشون تحت ضغوط خسارة أحبتهم، وفقدان حريتهم، وفقر حالهم، والفكر المتشدد المحيط بهم، والانتقام الذي يسري في دم الكثيرين منهم، وهم ينقلونه إلى الجيل الجديد”.
حاضنة التنظيم ودولة أشباله
يعيش في مخيم الهول المترامي الأطراف والذي يقع في البلدة التي تحمل ذات الاسم وتقع على بعد 40كم جنوب شرقي الحسكة ونحو 10 كم عن الحدود العراقية شمال غرب العرق، 56 ألف شخص من اللاجئين والنازحين الفارين من داعش، وكذلك المحتجزين من نساء وأطفال عناصر التنظيم. أكثر من نصف العدد الكلي عراقيون وغالبية هؤلاء من الفتيات والنساء. ونحو ثلثي مجموع العراقيين هم دون الثامنة عشرة من العمر.
ويُعد واحداً من أكبر وأشهر مخيمات اللاجئين في العالم بحسب موظفين بمنظمات دولية، لارتباطه بأحداث كبيرة وقعت في سوريا والمنطقة بنحو عام، أنشأته المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة بالتنسيق مع الحكومة السورية في أعقاب حرب الخليج سنة 1991 وسكنه في حينها 15 ألف عراقي وفلسطيني.
استخدم كذلك لاستقبال النازحين العراقيين في 2003 بعد الحرب التي قادتها الولايات المتحدة لإسقاط النظام العراقي السابق، وليستخدم لاحقاً لإيواء الفارين من المعارك بدءاً من 2016 خلال عمليات تحرير مناطق الرقة ودير الزور من سيطرة تنظيم داعش من قبل التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية.
وذاعت شهرته بنحو أكبر بسبب ارتباطه بالمعارك التي ترافقت مع إنهاء وجود تنظيم داعش العسكري في الباغوز في آذار 2019، حيث نُقلت نساء وأطفال عناصر التنظيم إليه، ولاسيما العرب والأجانب الذين رفضت بلدانهم استقبالهم ليبقوا عالقين هناك في قسم خاص بهم ترتيبه التاسع في المخيم، يطلق عليه أسم أنيكس/ Annex ويضم 10000 امرأة وطفلاً.
يُعدّ مخيّم الهول واحداً من أكبر وأشهر مخيمات اللاجئين في العالم، لارتباطه بأحداث كبيرة وقعت في سوريا والمنطقة بنحو عام
موقع بلدة الهول على الخرائط: ttps://goo.gl/maps/PaBonxmb151SyMNy9
موقع مخيّم الهول على الخرائط: https://goo.gl/maps/qpmFf9vhJLZyu1kq8
يسكن المخيم حالياً بحسب المنسق المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية في سوريا، عمران رضا، 56 ألف شخص، 50% منهم أطفال دون 12 سنة. وتبلغ مساحته 3,100,00 متراً مربّعاً، ويحيط به سياجٌ خارجي بامتداد 12.100 متر، وتقدّر متوسط مساحة الفرد فيه 40 متراً مربّعاً.
والمخيم مكوّن من 635 قطّاعاً، ومُقسّم إلى 9 أقسام أو ما تسمّى بالـ فيزات/ Phases اثنان منهما (فيزان) منفصلان عن الأقسام الأخرى بسياج، يصنف التاسع بأنه الأخطر بسبب عوائل عناصر داعش الذين تعرف عنهم العدوانية. وقد تم مؤخراً إنشاء قسم إضافي مستقل، أطلق عليه (مخيم السلام) تقوم الإدارة بنقل الأشخاص المهدّدين أمنياً إليه، أو المطلوبين لحالات الثأر وسواها.
تبلغ أعداد العراقيين المتواجدين حالياً في مخيم الهول 28956 وهم بمجملهم نازحون ومهجرون من نينوى وديالى والأنبار، ويتوزعون على الأقسام الأول والثاني والثالث والسابع وجزء من الرابع. فيما تبلغ أعداد السوريين 10868 شخص.
وبحسب عمران رضا فإن أكثر من 2500 عراقياً عادوا إلى العراق من خلال عمليات تسليم ونقل جرت حتى مطلع حزيران / يونيو 2022، واصفاً الخطوات التي اتخذتها حكومة العراق بالمهمة للغاية على طريق إيجاد حلول، ودعا إلى اتخاذ إجراءات من قبل الدول الأعضاء الأخرى التي يتواجد مواطنوها في المخيم.
“لكن الطريق مازال طويلاً، فالذين عادوا لا يشكلون إلا أقل من 10% من الباقين، ربما سيتطلب الأمر سنوات من العمل والتأهيل، فالإجراءات تسير ببطء شديد، وهناك أطفال يكبرون سريعاً في بيئة مليئة بالمخاطر”، يقول الناشط المدني علي حسين.
ويضيف “أتفهم معاناة ضحايا التنظيم بمن فيهم الإيزيديين، وأتفهم قلق المجتمع المحلي من عودتهم، لكن ما ذنب زوجات وشقيقات وأبناء مقاتلي التنظيم، هم ضحايا لفكر أو لنزوات أزواجهم.. كيف يمكن الاستمرار بمعاقبتهم بجرائم لم يرتكبونها”.
وتحذر الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخارت، من ذات الأمر، فقد ذكرت أن “إبقاء الناس في ظل ظروف مقيّدة وسيئة يؤدي في نهاية المطاف إلى مخاطر على مستوى الحماية والأمن أكثر من إعادتهم بطريقة منضبطة.”
وتواجه عودة العراقيين من مخيم الهول إلى مناطقهم السابقة في العراق، عادة برفض شعبي واسع سواء في المناطق التي كانت خاضعة للتنظيم مثل نينوى والأنبار وديالى وتكريت أو حتى سواها في بغداد أو المحافظات والمدن العراقية الأخرى.
والسبب وفقاً لما عبر عنه نواب وناشطون، هو عدم الوثوق بهم، ويقولون بأن العائلات العائدة قد تكون محطات يختبئ فيها عناصر التنظيم وتشكل خلاياه النائمة، فضلاً عن أن وجود أقرباء عناصر داعش في مناطق كانت قد تضررت من التنظيم، ستثير مشاكل أمنية وتؤدي إلى أعمال عنف انتقامية.
خلال تقصينا عن واقع المخيم وتقسيماته وتوزيع الأفراد فيه، علمنا أن القسم التاسع المخصص للأجانب (الرجال والنساء)، لا يسمح بتجاوز أعمار الأطفال الذكور فيه، عن 12 سنة، لذا لا يوجد هنالك رجال بالغون أو حتى مراهقون.
إدارة المخيم لا تحبذ الخوض في تفاصيل هذا القسم لأسباب تتعلق بحساسية الموجودين فيه، لكن من خلال تواصلنا مع موظفين يعملون لصالح منظمات دولية هناك، أخبرونا أن الأطفال الذين تصل أعمارهم 12 سنة يتم نقلهم إلى مكان آخر لأسباب عديدة أهمها: “عدم السماح بتزويجهم، وعدم إبقائهم في بيئة تحرض على العنف، وتلقنهم أفكار متشددة، إذ إن النساء يربّون الأطفال على فكرة أنّهم أشبال الخلافة”.
إحصائيات الأمم المتحدة تؤكد بأن المتواجدين في الهول ينحدرون من 51 جنسية، عربية وأوربية وآسيوية وأمريكية وأكثرهم من (العراق وسوريا ومصر والسعودية وتونس والجزائر ولبنان وتركيا وإيران وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وبعض دول أمريكا اللاتينية وإندونيسيا وتركستان وقيرغستان وطاجيكستان).
تحذيرات وأجواء رعب
يحذر مسؤول المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية فرهاد شامي، من خطورة الوضع في مخيم الهول، قائلاً إن “جيل جهادي” جديد يسعى لإحياء “دولة داعش”، وإنه جيل يجري غسل دماغه بأيديولوجيا التنظيم ما يشكل خطراً كبيراً على المنطقة والعالم.
ويصف الشامي المخيم بأنه أشبه بقنبلة موقوتة “لا نقول ذلك لمجرد عثورنا على بعض الأسلحة والذخيرة ومواقع التأهيل، بل لوجود عدد كبير من عناصر التنظيم الذين يسعون لفرض فكر داعش في المخيم”.
ويستطرد المسؤول في الإدارة الكردية بسوريا: “نحن نتحدث عن الجيل الثالث للتنظيم. الجيل الأول كان قبل داعش، ويتمثّل بالقاعدة التي شكّلت أساساً لانطلاقة داعش، والجيل الثاني الذي أسّس دولة داعش، أمّا الجيل الثالث فهم الأطفال الذين ينشأون اليوم في الهول. هؤلاء ولدوا عندما قدمت أسرهم إلى المخيم عام 2019، وخلال الفترة الممتدة بين عام 2019 وعام 2022 وُلد 8001 طفلاً وطفلة لداعش، وبحسب الولادات المسجّلة يولد هنا شهرياً 60 طفلاً، هؤلاء يربون على الحقد والانتقام لآبائهم وأقاربهم وأمرائهم”.
ويشهد مخيم الهول بشكل مستمر عمليات عنف وقتل، وارتفعت معدلات الجريمة في العام الجاري مقارنة بالأعوام السابقة، وهو ما دفع قوات الأمن التابعة للإدارة الذاتية في 25 آب أغسطس إلى تنفيذ حملة ضد ما تصفه بـ “الخلايا النائمة للتنظيم” في المخيم. كانت الحصيلة خلال أسبوعين إلقاء القبض على أكثر من 100مشبته بانتمائهم للتنظيم، وإزالة 110 خيمة كانت تستخدمها خلايا «داعش» لاجتماعاتها او لتنظيم «دورات شرعية».
وأكدت بيانات لقوى الأمن في الإدارة الذاتية اكتشاف “ثمانية مواقع للاعتقال والتعذيب وسبعة خنادق للاختباء، إلى جانب القبض على 23 عنصراً لخلايا داعش، وضبط أسلحة كلاشينكوف وذخيرة عسكرية، وأجهزة اتصال، وحافظات ملفات إلكترونية ولابتوبات مدفونة تحت الأرض”.
وأشارت إلى عثورها على: خيمة مخصصة للاحتجاز والتعذيب، كانت تحتجز فيها 3 نساء تتراوح أعمارهن بين 20 و 23 عاماً، وكنّ مقيدات بسلاسل حديدية مربوطة بجدار إسمنتي. وذكرت اثنتان منهن أنهما من العراق، وبدت على أيديهما آثار تعذيب وجروح متشققة. كما تم تحرير فتاة إيزيدية تدعى وفاء علي عباس. إلى جانب العثور على كتب ودفاتر وسجلات حملت دروس وأفكار دينية متشددة، تستخدم لتلقين أيديولوجية داعش، إضافة إلى عملات نقدية تعود “لدولة الخلافة”.
وقال مسؤول أمني إن الخلايا الموالية لداعش نشطت بشكل غير مسبوق في الأشهر الأخيرة، وقامت بعمليات قتل وتعذيب وترهيب باستخدام السكاكين والسيوف، ولجأت في بعض العمليات إلى مسدسات مزودة بكواتم صوت أو بنادق حربية، وهي تقوم برمي جثث الضحايا في أقنية الصرف الصحي في محاولة لإخفاء جرائمها.
المتحدث باسم قوى الأمن الداخلي علي الحسن، قال تعليقاً على تزايد عمليات القتل، بينما أشار إلى مجرى للصرف الصحي عثر فيه على جثث، إن الضحايا بدت عليهم آثار “تعذيب وحشي”، وإنهم قُتلوا على الأرجح بمسدسات كاتمة للصوت أو بنادق، مُنوَّهاً إلى أن عمليات العنف ارتفعت بعد محاولة الهروب الكبيرة من سجن الغويران في شباط فبراير الماضي.
وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان، قد ذكر أن “ثلاثة أشخاص قتلوا في الهول خلال شهر تموز الماضي، ليصل عدد المقتولين بين كانون الثاني وتموز إلى 27 شخصاً 6 منهم عراقيون وبينهم امرأتان، والضحايا الآخرون هم 11 من الجنسية السورية بينهم 8 سيدات، و8 نساء مجهولات الهوية، بالإضافة إلى مسعف ضمن نقطة خدمية، ورجل آخر مجهول الهوية”. وغالباً ما تتم عمليات القتل بواسطة مسدس أو نحر الضحية وإلقائها في مجاري الصرف الصحي.
في خيم تحولت إلى مدارس لترويج فكر تنظيم داعش، حيث تنتشر كتاتيب لتنمية عقائد تكفِّر الآخر وتغذي روح الانتقام، يكبر الأطفال الذين يشكلون نحو ثلثي سكان المخيم.
ووصفت وحدات حماية الشعب الكردية، في بيان مخيم الهول “ببيئة تتخفّى فيها الخلايا الإرهابية، وتستغلها للقيام بعملياتها”. وذكر سيامند علي، وهو مسؤول بتلك الوحدات أنهم أزالوا الخيم الفارغة ضمن المخيم، والتي يعتقد أن التنظيم كان يستخدمها خلال هجماته، وبدأوا “بتسجيل أسماء القاطنين.. وأخذ البصمات”.
وسط تلك الأجواء المشحونة بقصص القتل وأخبار “العنف والجهاد”، وفي خيم تحولت إلى مدارس لترويج فكر تنظيم داعش، حيث تنتشر كتاتيب لتنمية عقائد تكفِّر الآخر وتغذي روح الانتقام، يكبر الأطفال الذين يشكلون نحو ثلثي سكان المخيم.
فراغ كبير وعمالة أطفال
الناشطة المدنية غيداء حسين، تصف واقع الطفولة في المخيم بالسيء جداً، وأنهم جميعاً يعيشون نفس الحياة والروتين “الكثير منهم يذهبون إلى المدارس، رغم ذلك هناك نسبة أمية كبيرة بين الأطفال، حيث ينقطعون عن الدراسة لأسباب عديدة”.
وتذكُر بأن بعض النساء في المخيم وبهدف الحصول على مردود مالي، يبعن مخصصات الأطفال من الألبسة الشتوية التي تقيهم البرد، وكذلك مخصصات الأطفال من مرضى سوء التغذية (الزبدة والبسكويت) وكذلك أحذيتهم. وتضيف “لذلك نجد باستمرار أن هناك أطفالاً حفاة، وشبه عراة يتجولون في المخيم”.
وتسجل غيداء من ضمن ملاحظاتها عن حياة الأطفال، أن غياب الوالدين أو أحدهما يؤثر سلباً عليهم وحتى بوجود من يكفلهم كالعمة والخالة، فإن الاهتمام بهم يكون قليلاً، وهؤلاء يعانون من مشاكل أكبر”.
وتوضح: “إن عدم الاهتمام بهم يتسبب بانتشار الأمراض بينهم، أو تفاقم حالتهم المرضية بعد إصابتهم بمرض بسيط، لا سيما أن بعض المعتقدات المنتشرة بين لاجئي المخيم ترى في الذهاب إلى المنظمات الصحية أو أي منظمة أخرى داخل المخيّم نوعاً من الإذلال، وربما البعض يعتبرها مد اليد لجهة كافرة”.
بعض النساء في المخيم وبهدف الحصول على مردود مالي، يبعن مخصصات الأطفال من الألبسة الشتوية التي تقيهم البرد، وكذلك مخصصات الأطفال من مرضى سوء التغذية (الزبدة والبسكويت) وكذلك أحذيتهم.
وتنبه الناشطة إلى أن عمالة الأطفال شائعة وخاصة تلك التي تُجر بواسطة عربات كالتي تحمل عليها الخضروات والفواكه وغيرها في سوق المخيم مقابل أجور زهيدة.
ويعيش الأطفال بنحو عام فراغاً كبيراً فلا يتوفر لهم شيء يشغلون به أنفسهم، كما تؤكد غيداء “تجد الأطفال يطاردون العاملين في المنظمات الإنسانية، أو يرشقون سيارات المنظّمات بالحجارة، أو يتعلّقون بخلفيات صهاريج المياه وسيارات الحمل العابرة التي تنقل المواد الغذائية التموينية، أو تراهم يتجمعون حول عمال المقاولات كالحفريات، وأعمدة الإنارة وخزانات المياه”.
أمية متفشية وحرب ضد التعليم
موظف يعمل في منظمة دولية بمخيم الهول، أخبرنا بأن نسبة كبيرة من الأطفال العراقيين أميون، لم يتعلّموا الكتابة والقراءة على الرغم من أنهم جاوزوا سن المرحلة الابتدائية، وكذلك الحال بالنسبة للأطفال الأجانب في القسم التاسع.
البعض لم يتعلم لأنه تأخر عدة سنوات بين الأعوام (2014 و2019) في دخول المدرسة، كما أن الكثير من العائلات أو الأمهات بالنسبة لعائلات داعش، يرفضن إرسال أبنائهن إلى المدارس التي تديرها المنظمات وفق المناهج التعليمية الرسمية المقدمة.
ويتابع: “هنالك بالفعل من يريدون لأطفالهم تلقي العلم للخلاص من الجهل الذي يولد الحروب، بينما هنالك أيضاً من يعتقد بأن التعليم في المخيم ضحك على الذقون، وهو جزء من حرب موجهة ضدهم وضد أطفالهم لقلب معتقداتهم، لذلك يبقونهم داخل الخيم، وهم في أحسن الأحوال يُرسلونهم إلى الكتاتيب التي أسسوها ويدرسونهم فيها القرآن والمذاهب والأفكار الخاصة بهم”.
وينقسم التعليم في المخيم، بحسب الموظف الدولي إلى قسمين، الأول قام بتأسيسه الأهالي ويقومون فيه بتدريس أطفالهم القرآن والعقائد الخاصة بمذاهبهم، والثاني مراكز تعليمية منهجية من الصف الأول وحتى الصف السادس الابتدائي، وهي تابعة لمنظمة إنقاذ الطفل / Save The Children.
وكان لهذه المنظمة مركزان تعليميان، مرتبان من الصف الأول إلى الصف السادس وكانت تدرس فيهما اللغة العربية واللغة الإنكليزية والرياضيات (المبادئ الأساسية للحساب). الأول يقع في القسم الأول من المخيم، أما الثاني فكان يقع في القسم الثالث، وقد قام بعض الأهالي بتدميره.
ورجح الموظف الدولي أن تكون مادة العلوم هي السبب، إذ رفض الأهالي تدريسها لأن فيها موضوعاً عن جسم الإنسان وهددوا بعدم إرسال أبنائهم إذا تم تدريسها. وقد تم رفعها من المنهج بعد الحادث. ويقول عن ذلك “هذا كان دليلاً على رغبة قاطني المخيّم الاكتفاء بالكتاتيب لضمان تدريسهم القرآن والعقيدة، وعدم تلويث عقولهم وفقاً لما يعتقدون بثقافة أخرى غربية وغريبة”.
الأهالي المتشددون رفضوا أيضاً اختلاط التلاميذ الذكور بالإناث، ولهذا تم فصلهم عن بعض في الصفوف، ويقوم مدرسون ذكور بتعليم الفتيان ومدرسات إناث بتعليم الفتيات، ووصل الأمر على حد قول الموظف الدولي إلى تهديد إدارة المركز التعليمي الوحيد العامل حالياً بعدم الاختلاط بين الكوادر التدريسية أيضاً، ولا يستبعد أن يكون ذلك سبباً إضافياً لتدميرهم المركز التعليمي في القسم الثالث.
وتقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إن المنشآت التي تقيمها المنظمات الإنسانية تتعرض للتخريب ونهب معداتها وإلى الإغلاق المتكرر بسبب الحوادث الأمنية في المخيم
ويضيف على ذلك: “هم يمنعون أيضاً أية أنشطة يشكون أن لها علاقة بثقافة غربية كالأنشطة التي تحد من التطرّف ويوجهون تهديدات باستمرار لوقفها، ولا تمتلك المنظمات أي طرق أو وسائل للضغط عليهم، إذ أنّهم يخشون على حياتهم من التهديدات، كما لا يريدون ان ينقطع الأطفال عن التعلم تحت أي ذريعة”.
وتقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إن المنشآت التي تقيمها المنظمات الإنسانية تتعرض للتخريب ونهب معداتها وإلى الإغلاق المتكرر بسبب الحوادث الأمنية في المخيم، وهذا يصعب مساعدة المحتاجين.
في القسم الثالث من المخيم، كانت سيدة تدعى عائشة مع طفلتيها تراقبان المارة، أخبرتنا أنها تقضي نهارها هنا بالجلوس “بانتظار لا شيء”، فقط تتبادل أحياناً الحديث مع المارة! قلبت كفيها ورفعتهما عالياً في إشارة إلى الفراغ الذي تعيشه مع صغيرتيها (8 و6 سنوات). ذات الحياة تعيشها شقيقتين لها مع صغارهما. أشارت إليهما بيدها، كانت تقفان على بعد بضعة أمتار من خيمة مجاورة.
لم تجب عائشة في البداية على سؤالنا عن سبب عدم إرسال ابنتيها الى المدرسة. لكنها كانت مستعدة لرواية قصتها، وكيف انتهى بها المطاف الى الهول.
زوجها الذي تقول بأنه اتُّهِم ظلماً بالانتماء إلى داعش، قتله مجهولون في الأنبار في العام 2017، أما زوجا شقيقتيها فمعتقلان في سوريا لأنهما كانا مع التنظيم. تسرد محطات من قصة وصولها مع شقيقتيها إلى سوريا، والأهوال التي شهدتها بسبب انتماء عائلتها لداعش قبل أن ينتهي بهم المطاف في الهول الذي وصفته بالسجن الكبير.
تشكك عائشة بجدوى تعليم ابنتيها في المدرسة “ماذا ستصبحان في المخيم، طبيبتان؟” تقول ساخرة وهي تضمهما إليها.
وتتابع بنبرة السخرية ذاتها: “لم تفدنا المدارس بشيء ونحن أحراراً، لتفيدنا الآن ونحن مساجين وبلا مستقبل، لذلك أعلمهما القرآن والأحاديث النبوية بنفسي، وكذلك الخياطة والتطريز وصناعة الخبز، شيء يفيدهما إذا تزوجتا”.
مقايضة لتأمين حاجاتهم
قلة قليلة من سكان المخيم يحصلون على المال، مقابل عملهم لدى المنظمات الناشطة هناك أو بواسطة مشاريعهم الصغيرة التي افتتحوها لأنفسهم كمحال بيع الخضار أو الأغذية في سوق المخيم، أو بواسطة حوالات مالية تصلهم من خارج المخيم ونسبتها قليلة جداً.
فضلاً عن قيام البعض ببيع ما يخصص لهم من مساعدات، ويختلف الأمر من مخيم إلى آخر، والعمل مقابل المال يكون موجوداً في الأقسام التي فيها رجال فقط دون غيرها.
فيما عدا ذلك فإن الغالبية الساحقة ولا سيما العراقيون والأجانب يعتمدون في قوت يومهم على السلال الغذائية المقدّمة لهم من قبل المنظمات العاملة هناك كـ(مفوضية اللاجئين وبرنامج الأغذية العالمي ولجنة الإنقاذ الدولية وبلومونت)، وغيرها من المنظمات المدنية.
ونظراً لعدم احتواء هذه السلال على الخضار أو الفواكه أو البروتينات الحيوانية، يلجأ قاطنو المخيم إلى أسلوب المقايضة، بتبادل الفائض عن حاجتهم من مفردات السلال كالأرز والسكر بالخضار.
يؤكد العديد من سكان المخيم أن السلال الغذائية تقلصت في الأشهر الأخيرة، وصارت تتضمن فقط الزيت والسكر والأرز. ذلك يزيد من معاناة آلاف العوائل ممن لا يملكون أي مورد آخر لمعيشتهم.
تقول (ح. ج) وهي عراقية لم تبلغ بعد الخامسة عشرة من عمرها، تتطلع للعودة قريباً إلى جنوب الموصل حيث كانت تعيش، إن الوضع الغذائي يتراجع، وإن ذلك بات يشكل أكبر مخاوفهم “نخشى أن تنقطع السلات، لا نعرف كيف سنتدبر أمورنا، الكثيرون مثلي وأخوتي الصغار لا يملكون معيلا هنا”. وتتساءل “إلى متى تتطلع عيوننا إلى المساعدات؟”.
ولتأمين حاجاتهم من المياه يعتمد سكان الهول على مياه الصهاريج التي توفرها المنظمات العاملة هناك، كما توجد مراكز لمياه الآبار التي فيها نسب متفاوتة من الملوحة. وفي هذا المجال يشهد المخيم أيضاً شحٌّ في المياه بسبب تحديد وتقليص دخول صهاريج المياه، وأيضاً لوجود نقص في عدد خزانات الماء المنتشرة فيه.
ويوصف الواقع الخدمي في المخيم، سواء من قبل اللاجئين أو المنظمات بـ”السيء جداً”. ممثل أحد المنظمات الصحية العاملة بالمخيم قال: “نعم الواقع الخدمي سيء، لأن الإمكانات محدودة، مياه الصرف الصحي تنتشر في المخيم على شكل مجاري سطحية تمر عبر الخيم، وهي مشكلة قائمة تجلب مختلف أنواع الحشرات والأمراض معها”.
كما أن خدمات الرعاية الصحية محدودة، رغم وجود العديد من المنظمات المعنية بالصحة، وهي الهلال الأحمر الكردي والهلال الأحمر العربي السوري، ومشفى الصليب الأحمر الدولي، إضافة إلى بعض المنظّمات التي تختصّ بتقديم الرعاية لفئة عمرية معيّنة من الأطفال كجمعية مار إفرام، وجمعية المودة الخيرية، وأطباء بلا حدود وجمعية مار آسيا.
ولا تتوفر أدوية لجميع الحالات لدى هذه المنظمات ويحدث أن يتم نقل بعض المرضى إلى المستشفيات التخصصية في مدينة الحسكة في حال كان الأمر مقتضياً، ويتم في العادة إخراج أولئك المرضى بناءً على إحالات طبية يتم إعدادها من قبل إدارة المخيّم.
في القسم السابع من المخيم، قابلنا عماد (36 سنة) من مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار، الذي تحمّل بعد وفاة والديه عبء الاهتمام بشقيقه الأكبر الذي يعاني من الصمم، وإعاقة ذهنية مع شلل في طرفيه السفليين منذ ولادته.
يقول عماد بأنه كان موظفاً في وزارة الاتصالات العراقية، يعيش حياة هادئة بلا منغصات يستمتع بممارسة كرة القدم ومتابعة الدوريات الكبرى، واكتملت سعادته بزواج رتبته والدته “كان ذلك قبل تنقلب حياتنا في 2014”. يقول وهو يتلفت متجنباً ذكر داعش بالاسم.
ويتابع ويده على جبهته “فرضوا عادات دخيلة علينا وعلى نسائنا، منعوا كل شيء، وطلبوا منا إطالة اللحى ولبس النقاب”.
تناول سيجارة من جيب دشداشته العلوي، قال وهو يضعها في زاوية فمه اليسرى “حتى هذه حرّموها علينا”، أخذ نفساً عميقاً من ثم أطلق الدخان إلى الأعلى بنحو مطول. وأضاف: “كنّا في خوف دائم من أن يقوموا بتجنيدنا بين صفوفهم رغماً عنّا، لقد نجانا الله منهم، ولكن عند اشتداد المعارك حول مدينة الرمادي اقتادونا تحت التهديد إلى الباغوز، استخدمونا دروعا لانسحابهم”.
يتابع: “كان على كلّ من يفكر في الهرب أن يفكر قبلها بموته قتيلاً، رأينا هناك مالم يره بشر؛ حالات قتل وعنف وتعذيب وخوف لا يمكن للسان وصفه، وأثناء الهدنة في بداية 2019 خرجنا إلى مخيم الهول، وها نحن هنا منذ ذلك الحين”.
يمسك السيجارة بإصبعين ويستغرق في لحظة شرود، ثم يهز رأسه كأنه يتحرر من فكرة راودته، ويقول: “لن أنسى أول يوم في هذا المخيم، خاصة مع صعوبة تأمين احتياجات أخي المعاق، كما أنّ بعض الخصوصية التي يحبها الشخص لا يجدها في المخيّم، ولأنني لا أستطيع فعل شيء فقد وضعت سوراً حول خيمتي، هذا كل ما استطعت فعله”، ويشير ملتفتاً إلى سياج غير منتظم من قطع الخشب.
ينقل السيجارة الى فمه مجدداً ويشرح حالة شقيقه المعاق، والمعاناة التي يتكبدها هو وأسرته الصغيرة “حين كنا في العراق كان أبي وأمي يبذلان جهد إمكانهما لمساعدته، لكن بعد وفاتهما، وتحملي وزوجتي لمسؤوليته بات الأمر أكثر صعوبة خصوصاً أنه يكبر ومعه يكبر همه، وأبسط ما نواجهه مثلاً، أنه يبكي مثل طفل صغير إذا لم أجلب له الحلوى”.
يلقي بعقب السيجارة بعيداً “سنبقى هنا، لا أدري ربما لسنوات أخرى، فلم يعد لدينا منزل هناك نعود إليه، ولا أظنني سأكون قادراً في العراق على توفير متطلبات السكن، والحياة لعائلتي والاعتناء بشقيقي”.
برنامج العودة
في 11 آب / أغسطس 2022 سلمت الإدارة الذاتية بسوريا، الحكومة العراقية 150 عائلة تضم 670 عراقياً، بينهم 620 من أفراد عائلات مقاتلي تنظيم داعش، إضافة إلى 50 من قيادات التنظيم وعناصره المعتقلين.
وكانت السلطات العراقية، أعلنت في مطلع حزيران / يونيو تسلمها 50 عنصراً من التنظيم، من قوات سوريا الديمقراطية التابعة للإدارة الذاتية السورية. في وقت تقدر مصادر أمنية عدد العراقيين المعتقلين هناك بنحو 3500 معتقل.
وفي أيار الماضي أعلنت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية، أنها ستتسلم 500 عائلة من مخيم الهول خلال العام الجاري غالبيتهم من الأطفال والنساء، وفي عدة دفعات. وفعلاً كانت قد تسلمت أكثر من 150 عائلة في ذات الفترة.
وتقول الوزارة إنها تستطيع استقبال 150 عائلة تضم بين 650-700 شخص كأعلى معدل، لضمان النقل الآمن وتأمين الغذاء والخيام لهم.
وكان مدير دائرة الهجرة والمهجرين في محافظة نينوى، خالد عبد الكريم إسماعيل، قد ذكر في تصريحات صحفية في 24 تموز / يوليو الماضي، أن دائرة الهجرة استقبلت أكثر من 5 دفعات، بما يعادل 660 عائلة عراقية، في مركز الجدعة للتأهيل النفسي والمجتمعي بهدف إعادة دمجهم بالمجتمع.
المتحدث باسم وزارة الهجرة والمهجرين العراقية: إن خطط الوزارة لإعادة المواطنين والعائلات والعائلات العراقية من سوريا “لا تشمل بأي شكل دواعش إرهابيين”
وأوضح أن الأفراد الذين دخلوا في مراحل تأهيلية تستمر شهرين إلى ثلاثة، بمشاركة عدد من المنظمات المحلية والدولية، بمجرد انتهاء تأهيلهم النفسي يغادرون إلى بيوتهم، مشيراً إلى أن أكثر من 394 عائلة عادت إلى مناطقها، وأن أكثر العائدين هم من محافظة الأنبار، ومن ثم نينوى، تليها صلاح الدين.
وتقوم الجهات الأمنية العراقية بتدقيق السجلات الأمنية للعوائل الراغبة بالعودة، للتأكد من سلامة وضعها وعدم وجود أفراد منتمين لداعش بينها.
وتؤكد وزارة الهجرة أن أكثر من 90% من العائدين لا يحملون أي مؤشرات أمنية، ولكنهم اختلطوا مع الموجودين في مخيم الهول الذي يضم عوائل التنظيم، وخوفاً من تأثير أولئك عليهم يتم تأهيلهم قبل دمجهم بالمجتمع.
ويقول علي عباس، المتحدث باسم وزارة الهجرة والمهجرين، إن خطط الوزارة لإعادة المواطنين والعائلات العراقية من سوريا “لا تشمل بأي شكل دواعش إرهابيين”، مبيناً أنه بعد انطلاق برنامج العودة تراجع عدد العراقيين في الهول من 30 ألف إلى حدود 27 ألف عراقي.
متخوفون من الوطن
إلى جانب عدم تسوية ملفاتهم الأمنية من قبل الحكومة العراقية، ورفض المجتمعات المحلية عودة بعضهم بسبب الجرائم التي ارتكبها أبناؤهم مع خوفهم من أن يجلب رجوعهم العنف وعدم الأمان لمناطقهم، يعدد الخبير والباحث مقدام خالد عزيز، أسباب أخرى تقف وراء رفض بعض العراقيين المتواجدين في مخيم الهول العودة إلى مناطقهم، بينها ما هو أمني، إذ إن الكثيرين واقعون تحت تأثير ما يصفه بالإشاعة والخوف من الانتقام.
“يزعم من يرفض العودة والمغادرة، وحتى التسجيل على الرحلات التي خصّصت للعراقيين للرجوع إلى بلدهم بأنّهم يتخوّفون من ملاحقة السلطات لهم قانونياً، ومصيرهم سيكون السجن أو القتل وبعضهم يتحدث عن فصائل في الحشد الشعبي كتهديد أساسي”.
ويذكر أيضاً بأن هنالك أسباباً اقتصادية، لأن من الصعب عليهم ولاسيما النساء اللاتي فقدن معيلهن، بناء حياة جديدة في العراق من ناحية تأمين المعيشة اليومية بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة، فضلاً عن صعوبة توفير السكن والمأكل: لذلك تفضلن البقاء في المخيّم طالما أنّ هناك خيمة تأويهن وأطفالهنّ، وأنّ هناك سلال غذائية، وطبابة للحالات الضرورية”.
ويؤشر الخبير مقدام أسباباً أخرى لرفض العراقيين المقيمين في مخيم الهول العودة، وهو خوفهم من الثأر والتصفيات الجسدية تطبيقاً لأحكام عشائرية، وبعضهم يخشى على نفسه حتى في المخيم ذاته “وهو ما دفع إدارة المخيم إلى إنشاء (مخيّم السلام) لحماية هؤلاء، وغيرهم من المتخوفين من قضايا مشابهة”.
وينقل الباحث، عن الأمم المتحدة تأكيدها في حزيران / يونيو 2022 مقتل 100 شخص في مخيم الهول خلال 18 شهراً، بينهم الكثير من النساء.
ويقول بأن هنالك من ينتظر تسويات لأوضاع أبناء أو أقرباء لهم، المتواجدين في السجون والمعتقلات العراقية، ويربطون عودتهم بخروجهم منها، كما أن هنالك من دمرت مساكنهم أو أصبحت قراهم خالية من السكان.
منى أو “أم محمود” كما تحب أن تنادى، سيدة عراقية في عقدها السابع من أهالي مدينة الرمادي بمحافظة الأنبار، وهي أمٌ لثلاثة أبناء ومثلهم من البنات، كانت تقضي حياة كريمة في ظل زوج يعمل في مجال المقاولات، ويساعده اثنان من أبنائهما، بينما الابن الأكبر محمود يعمل ممرضاً في مستشفى حكومي، ومحط فخر العائلة واعتزازها، كل ذلك قبل أن يسيطر تنظيم داعش على المدينة في 2014.
“في أحد الأيام، جمعنا محمود وأخبرنا بانتمائه لداعش، وطلب من أخويه الانضمام إليه، الخبر الصادم وما خلفه من غضب وجدل شديد أصاب والده بنوبة دماغية أدت إلى شلل في أطرافه، توفي بعدها بأشهر قليلة جراء الحزن” تسرد أم محمود الحكاية وهي بالكاد تغالب دموعها.
لاحقاً اعتقلت القوات العراقية الشقيق الأوسط وهو حالياً في سجن الناصرية، بينما الأصغر وعائلته مع أم محمود لحقوا بمحمود وعائلته الذين انتقلوا إلى تلعفر، لكن هناك قُتل محمود، فانتقلوا جميعاً مع آخرين من عوائل مقاتلي التنظيم إلى الباغوز، وبعد تحريرها في 2019 تم اعتقال الابن الأصغر، وهو في سجن الحسكة حالياً، بينما نُقلت أم محمود مع زوجات أولادها و12 حفيداً إلى مخيم الهول.
تعمل أم محمود لإعالتهم في محل صغير لبيع الخضار في سوق المخيم، فما تستلمه من برنامج الأغذية العالمي وفقاً لما تشتكي، غير كافٍ، وتخشى أن يتفاقم سوء وضعها الصحي بشكل لا تكون فيه قادرة على تأمين قوت من تتكفل بهم “عندي ماء أبيض في عيني، وارتفاع دائم في ضغط الدم”.
تفكر قليلاً بإمكانية العودة إلى العراق، فتقول موجهة يدها جهة شمال شرق المخيم “إذا قدرت لنا العودة يوماً إلى العراق، سأختار أربيل، لأنها آمنة ولا أحد يعرفنا هناك، ولن يعاقبوننا نحن النساء والأطفال لأن ابناً عاقاً لنا انتمى دون إرادتنا إلى داعش”.
تم نشر هذا التحقيق وفق مذكرة تفاهم بين مجلّة صُوَر و شبكة “نيريج” للتحقيقات الاستقصائية، و صحيفة “العالم الجديد”.
لقراءة التحقيق في موقع شبكة “نيريج”، وموقع مجلة صور اضغط الرابط 1 ، الرابط 2