الحصان الذي لم يسر بصاحبه صوب الهاوية
الحصان الذي لم يسر بصاحبه صوب الهاوية
عباس علي موسى
قبل أيام استذكرت مدينة قامشلي أربعينية ضحايا التفجير الإرهابي الذي ضرب المدينة في السابع والعشرين من تموز/يوليو 2016. مع أنّ منطقة الجزيرة قد شهدت أحداثًا عديدة، إلا أن هذا التفجير كان له وقع أليم، لما للمدينة من رمزية. التفجير الذي حصد أرواح أكثر من 60 شهيدًا وخلّف أكثر من 140 جريحًا، ترك خلّفه كذلك الحكاية مشتعلة كقنديل وسط الشمس تحترق لذاتها ولا تنير إلا فتيلها. الحيّ الغربي من المدينة تغيّرت ملامحه وتناثرت قصص الموت في ثناياه، وكان العدد ليكون أكثر لولا أن أنقذ التأخر عن نشاط الشارع أرواح العشرات.
تقول زوجة أحد الناجين أنّها استوقفت زوجها للحديث إليه عن حلم راودها فجر ذلك اليوم، ومع أنّ زوجها كان ليذهب إلى محله -وهو عبارة عن محل نجارة موبيليا في مسرح الحدث- إلا أنّه تنازل عن الذهاب لصالح الاستماع إلى “أضغاث أحلام” زوجته.
احتسى القهوة على وقع الحصان الأبيض الذي كان سيودي به إلى حتفه! تقول الزوجة عن الحلم: “لقد رأيته ممتطيًا حصانًا أبيض كالنور، فاستوقفته: أريد أن آتي معك، وإلا لن أدعك تذهب وحدك، وبعد شدّ وجذب آثر أخيرًا الترجّل عن صهوة الحصان النورانيّ البياض”.
أثناء سماع الزوج الحكاية وهو يحتسي قهوة النجاة، دوّى انفجار عظيم في الشارع حيث كان سيغدو دون زوجته. وبدأت الحكاية معه من جديد، ليحكي لنا قصة النجاة الأثيرة.
في الشارع الشهيد تمزّقت شباكُ عينيّ وهي تمرّ بعد أربعين يومًا على الحدث المهشِّم لجمجمة المدينة التي تداخلت فيها الذاكرة. ثم مَن قال إنّ الشموع هي التعبير الأوفى للضحايا؟ فالشمعة التي تتراقص شعلتها تعكس الألم مضاعفا على جدران الروح، كما تعكسها على الجدران التي دمّرها الحاقدون على الحياة. لكن هل أبقى التفجير جدران لتتكئ عليها الشمعة بشعلتها!
فضاء مفتوح يمرّ به النسيم هادئًا يلقي بتحيته على الجدران المتساقطة ويمضي، هذا الفضاء الأليم الذي يبدو كجرح في الجسد، تنتزع القلب منه وتفتح معبرًا للنسيم للمرور في الجسد الفضاء.
-ها منزلي متساقطٌ، هل تراه؟
-لكن هل نستطيع أن نسمّي جدارًا مفردًا، بيتًا، لمجرّد أنّه كان كذلك قبل أربعين يومًا!
-ها ستارتي على الجدار الساقط، ها نافذتي، هل تراها؟
-لكن هل نستطيع أن نسمّي إطارًا ما، نافذة! لمجرّد أنّها كانت كذلك قبل أربعين يومًا؟
في الشارع الشهيد تمزّقت شباكُ عينيّ وهي تمرّ بعد أربعين يومًا على الحدث المهشِّم لجمجمة المدينة التي تداخلت فيها الذاكرة.
-ها ابنتي، ها بنيّ، ها إخوتي، ها أخي وجدي، ها الشرفة التي لم نطلّ منها كما ينبغي على الشارع.
صورة للمكان خاويًا على عروشه، وعليه مرسوم دوائر حمراء، تقول: هذا منزلي، وهذا منزله، وذاك محلّه، وكأنّ الدوائر حبال شنقت الحجارة قبل أناسها. مرّ الضحايا أربعين ليلة في الشارع المخضّب بدمائهم، حتى تعبوا، وفي ليلة الأربعين ذهبوا ليستريحوا من الحياة كما ينبغي، متدثرين بكلماتنا وصلواتنا كلّ ليلة لأجلهم.
نشرت المادة في موقع ألترا صوت