قصر الطيور الحزينة (سوسَن غابت أخيرًا وأغلقت دونها البوابة العظيمة التي فتحتها)
“قصر الطيور الحزينة” هو اسم لرواية بختيار علي كتبها بمداد ساحر وقرأتها أنا وكأنّني أول وآخر قارئ سيقرأ سرّا خطّه بختيار وقال لكلّ قارئ من قرّائه أنّه يخصّه هو وحده، هي لغة مُلغزة بين روائي وقرّاءه لا يستطيع قراءتها أو إلغازها إلا من أوتي من العلم لدُنا.
في العادة يكون أبرز ما تسِمُ به رواية عظيمة ما هو أن تقول أنّها شدتني إليها بحيث انتهيت منها في جلسة أو جلستين، لكن هذا لم يحصل لي، فأنا كنتُ القارئ الحصيف الذي فكّر به بختيار علي طويلا وهو يكتب هذه الرواية العظيمة، أنا قارئه الافتراضيّ الذي علم في كلّ انتقالة ما الذي سينتابه من ألم أو أسى، من حبّ أو خوض في غمار الحياة، أنا الذي أمسك الروائي بيده ودلّني كلمة كلمة حتى أتنقّل بين صفحات الرواية.
طوبى لمن سأكون أنا قارئه الحصيف، قارئه المفترض، قارئه الذي يمزج الدمع بأوراق روايته، والذي لا يفرغ من القراءة سريعا لأنّه يُريد أن يعيش أكثر مع الرواية، يُريد منها أن تُقاسمه لحظاته، وطوبى لمن سأستفيق في فجر كهذا لأقرأ فصول روايته الأخيرة، تلك الممزوجة بخيبة النهايات، تلك التي تعلم أنّها لن تكون بلسما للجرح الذي غار في روحك حين افتتحته لتبدأ.
إنّ سوسن فِكرت التي رسمها الروائي لتُشبه حالنا غابت أخيرا وسافرت كأي طير وخرجت مع آخر كلمة في الرواية وأغلقت دونها تلك البوابة العظيمة التي فتحتها مع أول كلمة وقعت عيناي عليها، فكيف لي بعد هذا أن أؤمن بأفضلية القارئ النهم! لا نهم مع اقتيات الكتب، سوى أن يكون المرء قارضا من تلك الأصناف التي تلتهم الكتب دون أن تمضغها جيّدا.
الحياة قصيرة، دعنا لا نضيّع شطرها بلغو الكلام والكتابة.
لن أشارك القرّاء تفاصيل الحكاية ولن أفتح لهم زرّا فيها، سأتركها برمتها لهم، فليحتسوا ما شاؤوا من قهوة وشاي وهم يتصفحّون العالم في الرواية، وليدخلوا قصر الطيور الحزينة بصخب الفضول ويخرجوا مع آخر كلمة منكسرين من كثرة الخيبات التي ستمرّ عليهم.
إنّ سوسن فِكرت التي رسمها الروائي لتُشبه حالنا غابت أخيرا وسافرت كأي طير وخرجت مع آخر كلمة في الرواية وأغلقت دونها تلك البوابة العظيمة التي فتحتها مع أول كلمة
لم أستطع للحظة أن أنعتق من التخييل ومحاولة خلق متوازيات بصرية لما أقرء، لكن في النهاية كانت الكلمة هي الرسم الموازي للتخيّل، إنّها تقنية صعبة المراس أن تفصل بين الذاكرة البصرية والحسّية في كتاباتك، فعادة ما أكتشف السرّ سريعا حين يلجأ البعض من الكتّاب إلى محاكاة المشاهد السينمائية، فأرى ما أرادوا لي رؤيته أو أكتشف ما وراء الكلمة من صورة، لكن قصر الطيور الحزينة ليست رواية كذلك، فسوسن فِكرت لم تتمثّل لي سوى في رسم الكلمة (س و س ن) أو (سهوسهن) ولم أستطع تمثيلها في صورة.
هنا أدرك تماما الفرق ما بين الصور في الحقيقة والصور في الكتابة، وهي التي تعمل بقوة التخيّل، ذلك الأمر الذي يُشبه موازاة الأعمى لعالم ملوّن.
طوبى لمن سأستفيق في فجر كهذا لأقرأ فصول روايته الأخيرة، تلك الممزوجة بخيبة النهايات، تلك التي تعلم أنّها لن تكون بلسما للجرح الذي غار في روحك حين افتتحته لتبدأ
لكن دعني أقول لكم شيئا آخر في حكايتي مع هذه الرواية، فأنا قرأت الترجمة العربية لهذه الرواية، بترجمة الصديق إبراهيم خليل الذي كنتُ أكيل له المدائح كلما أنهيت فصلا من الرواية من الفصول الـ 58، فأنا ورغم قراءاتي المقلّة في السنوات الأخيرة، إلا أنّني لم أقع على ترجمة بهذه الروعة، إنّها ترجمة تُشبه تلك التي ستقول عنها، أنّها لو كتبت في الأصل بالعربية لما قام الروائي بنحت لغويّ أبدع من هذا، إنّها أمنية كلّ كاتب أن يجد ترجمة تُحاكي أو تفوق ما خطّه في الأصل.
وقد صادف انتهائي من الرواية أن وصل الصديق إبراهيم خليل إلى الضفة الأخرى، إلى بلاد المهجر، كما فعلت كلّ كلمة في هذه الرواية.
في هذه العتمة التي تلفّ مدينتنا في هذه اللحظات وهي ليست لحظات فارقة، إذ هي طقس يوميّ منذ عشرة أعوام، أكتب ما أكتب الآن، دون أن يُساورني أيّ شكّ في أنني ربما قد بالغت في كيل المدائح لهذه الرواية.