خديعة تدفعك إلى ولوج مغامرة القراءة
إبراهيم خليل/ كاتب، ومترجم
باستثناء جنوب كردستان خلال “ربع القرن” الفائت، لكلّ كرديّ في العالم تاريخ من الازدواجية الثقافية؛ يتمثل في امتلاكه لغتَي أم، واحدة للتفكير وأخرى للكتابة. وبالنسبة إلينا – نحن كرد سوريا مقيمين وظاعنين – جلست العربية منا مجلس المربية من الطفل، فنشأنا في حجرها لا في حجور أمهاتنا ورضعنا من أثدائها حليباً تمثّلناه طوعا وكرهاً، وأعدناه إليها سمناً وجبناً ولبناً، وتأصّلت فينا هذه العادة حتى غدت طبيعة ثانية لا ينفع في تغييرها – إلا فيما ندر – استبدال المكان ولا تقادم الزمان.
ومع ذلك فليس من الإنصاف وسم هذا التثاقف بمحض التعريب السياسي؛ أعني بإغفال بعض جوانبه اﻹيجابية، فلا يستعرِب الكرديّ مهما أجهد نفسه ( سليم بركات نموذجاً ) ﻷنّ الدماء التي تجري في عروقه منذ قرون حاملة جينات أسلافه اﻷوائل لا تنفكّ تجري على لسانه وتحرك قلمه بنصوص جديدة وقوالب مستحدثة، وصور طريفة ليس لابن البادية اﻹتيان بمثلها وإن حاول، ولعل التشبيه اﻷدقّ واﻷوفى لتصوير مثل هذه الحال هو ثنائية الماء واﻹناء، دون أن ننفي بالطبع بدهية أن لغة المنتَج اﻷدبيّ في نهاية اﻷمر هي ما يحدد هويته بالدرجة اﻷولى.
في مجموعته القصصية الصغيرة حجماً “شامبو برائحة التفاح” يخوض عباس علي موسى تجربته اﻷولى في مجال السرد – بلغة المربيّة – عارضاً لنا عبر عينيه النفاذتين ألبوماً من الصور والمشاهد الحياتية المختلفة والمتنوعة المحيطة به وبنا، مركّزاً على التفاصيل اليومية الدقيقة التي ضاعت منا في زحمة انشغالنا بالحوادث الجليلة والقضايا الكبرى.
(الله، الطفل، القيء، المنزل، الجنة، الجحيم، التعب، اﻷصابع، الساعة، العكاز، السفر، اﻷرقام، المرأة، المكان) هي كلمات “عباس علي موسى” السريّة الحميمة التي يُشكِّل ناتج جدائها دخانه اﻷبيض الخارج من قمقم القدر على هيئة كائن بشري لطيف ودمث، وهي ذاتها التي ينثرها في أثناء كتابه اﻷول بشكل لم يخطط له إلا كما يخطط اﻹنسان للمشي، نستثني منها المفردة اﻷخيرة التي حاول على امتداد55 صفحة التهرب منها22 مرة وأفلح في جميعها.
تغرّر بك أقاصيص “عباس” القصيرة (جداً) والمخادعة جداً بمظهر كلماتها القليلة دافعةً إياك إلى ولوّج مغامرة القراءة لتكتشف بعد قليل ما تورطت فيه، وأنّ عليك – لتفهم وتشعر – أن تقرأ كلّ قطعة مرتين على اﻷقلّ، بل إنّ منها ما لا يتاح لك هتك ستره بأكثر من ذلك كما في (حصار الضوء) مثلاً.
في (شامبو برائحة التفاح) أنت إزاء شاعر يروي لك حدثاً، وبينما تنتظر سرداً واقعياً بكلمات شعرية، يأتي السرد شعرياً محضاً لا يكاد يخدش شعريته سوى التوزيع الهندسي النثري وبعض أحرف الجر والعطف والربط الزائدة هنا وهناك.
دفقات عالية من الحساسية تختبئ خلف الكلمات المنتقاة بعناية، ونفس إنسانية رقيقة ومنهكة تحتمي بسماكة النص كورقة توت تحجب العورة عن أعين العوام، وتبديها للخواص ممن ألفوا معاشرة المعميّات.
إذا نظرنا في المجموعة من زاوية “التناص” اﻷدبي وهي دمغة يستحيل – برأيي الشخصي – أن يسلم منها عمل أدبي فسنجد في (تذكرة سفر) و (أزرق) أجواء وجودية – بالمعنى المذهبي للكلمة – تتخيّل معها أنك تقرأ صفحات من (الغريب) لـ “كامو” أو (الغثيان) لسارتر، وفي (عري الخوف) يطل “مسخ” كافكا برأسه على خلفية من إحدى تهويمات الخط واللون عند دالي. أما (شامبو برائحة التفاح) بالذات؛ وهي القصة التي منحت اسمها للمجموعة، فنتلمس فيها بسهولة أثر “مارسيل بروست” وشاي “المادلين” خاصته كما نستحضر حساسيته المرهفة التي تتبدى في تفاعله مع التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية والذكريات التي تتركها خلفها كقُمعٍ مقلوب، حسبكَ أن تثقب رأسه المدبب حتى تبدأ الذكريات البعيدة والمفقودة بالسيلان.
يتحدّى المؤلف نفسه – بدافع الحلولية لا الاستعراض – فيجرب التناسخ في فتاة مراهقة (شامبو برائحة التفاح) وفي عصفور (المدينة مخنوقة) وفي فأر (نوايا حسابية) وفي عجوز (تذكرة سفر) وفي تلميذ مضطهد (فراغ) وفي ورقة شجر (سقوط ورقة) فيتلبّسها جميعا كممثل بارع يطمح إلى إثبات تمكّنه من التجسد كيفما شاء ولعب دور القاتل والقتيل معاً.
***
وقبل أن نختم، لا يفوتنا اﻹشارة إلى بعض الهنات اللغوية التي شابت لغة “عباس” الجميلة:
– (جاءني بائع الفراء اﻹيزيدي ذي الشارب الكث) ص7 والصواب (ذو) ﻷنّ الشارب للبائع وهو فاعل مرفوع وليس للفراء كما توحي به الجملة.
– (تباطئي عن الركوب) ص9 ، وأحسب أنّ الصواب (تباطؤي).
– (الضوء مطفئ) ص16 والصواب إملائيا (مطفأ).
– (دلفت كل واحدة منهن بيتها) ص20 وأظن اﻷصوب (إلى بيتها).
– (طفل يمشي إلى جانب أمه، مروا من هناك) ص20 والصواب (مرا من هناك).
– (يجب أن ننتظر الحواري كثيرا) ص21 وأظن أنّ المقصود جمع “حورية” وهو الحور أو الحوريات.
– في (محارم معطرة) يراوح المؤلف بين تذكير الطريق وتأنيثها والغالب عندي أنّها مؤنثة، ويقول فيها (أربعة علب) والصحيح أربع.
– (واستبدل العدو بلعب الدحل) ص48 والصواب (واستبدل بالعدو لعب الدحل) ﻷنّ الباء تلحق المتروك، والملاحظة ذاتها بالنسبة إلى جملة (واستبدل العدو والدحل بلعب التراب) في الصفحة عينها.
لاشكّ أنّ اﻷمزجة متباينة، وأنّ كلّ قارئ للمجموعة سيجد واحدة من قصصها أقرب إلى نفسه، تبعاً لما تتركه من أثر وما تملأه من فراغ، وبالنسبة إليّ شخصياً كانت (محارم معطرة) هي اﻷجمل واﻷغنى حكائياً، لسلاسة سردها ومتانة حبكتها، ولذلك لن أقاوم رغبتي في تلخيصها معتذراً عن سلبها جمالية اﻷسلوب في نصها اﻷصلي: شاب يقيم في غرفة مع شريك له، يخرج في ليلة شتاء ﻹحضار دواء وجريدة فتصادفه على الرصيف امرأة تبيع المحارم المعطرة ولدوافع نفسية مجهولة ومتداخلة يشتري منها أربع علب دفعة واحدة، ليكتشف في البيت أنّها خمس. يقرأ لاحقاً في الجريدة (التي أحضرها خطأ على أنّها جريدة السبت حتى تكتمل لعبة القدر) خبر مقتل تلك المرأة بالذات، فيدفعه اﻹحساس بالذنب (ذنب حصوله على علبة زائدة) إلى تمزيق جميع علب المحارم ليتناثر من إحداها أكياس صغيرة من دقيق أبيض – مخدرات – وفي قفلة تعتمد تقنية “الخطف خلفا” يعود بك القاص إلى الحوار الافتراضي الذي دار بين المرأة وتجار المخدرات والذي قتلوها في نهايته بسبب فقدانها ﻹحدى العلب.
نختم بالقول أنه للأسباب التي ذكرناها في المقدمة، كانت النسخة العربية هي اﻷصل لتتبعها – كشكل من أشكال التكفير أو الترويج – في كتاب مستقل ترجمة أنيقة إلى الكردية بقلم “عبدو شيخو” نرجو أن تجد بدورها من يقدمها بالكردية إلى القراء الكرد نقداً وتحليلاً.
– شامبو برائحة التفاح ( قصص قصيرة ) – عباس علي موسى
– الطبعة اﻷولى آذار 2016
– 55 صفحة من القطع المتوسط
– صادرة عن مؤسسة جارجرا للثقافة / طبعت في مطبعة سيماف، قامشلي
نُشر المقال في مجلة صور
كيف استطيع الحصول على نسختي ؟ من دمشق