في قلبي سنبلة تحترق
عباس علي موسى
حرائق…حرائق…حرائق، لا شيء سوى الحرائق هذه الأيام، وكأنّ الجزيرة كتلة نار تتدحرج من حقل إلى آخر، إذ لا شيء يغصّ في القلب سوى أنّ النيران أتت على كلّ ما ينبض بالحياة، ابتداء من السنابل وانتهاء بالقلب.
لطالما كانت النار نذيرة الخرائب الكبرى، والخيبات الكبرى، إذن هي حرائق تتناصّ بصريا مع حرائق روما، لكن دون أن نلحظ أو نشاهد أسنان من تلتمع في العتمة والمتواري خلف ستارة يشعلُ النيران بحقولنا حقلا إثر آخر، أين هو نيروننا إذن!؟
بالتأكيد وبمنطق العقل، فإنّ مؤدّى هذه الحرائق ليس جهة واحدة ولا شخصا واحدا ولا سببا واحدا، لكنّ الواضح والأكيد أنّ الطبيعة هي أقلّها، والأوضح أنّ السجائر والإهمال هي أقلّها والأوضح كذلك أنّ غالبها والتي ترسل رسائل تطال خبزنا اليوميّ هي من جهات فاعلة وبحرائق مفتعلة، ولا أكثر من يتربّص بنا، يريد أن يرسل رسائل مملوءة برماد سنابلنا.
صور عديدة وثّقت هذه الحرائق، يبدو فيها الإنسان عاجزا، وفي أخرى مقاوما، وفي أخرى محترقا قلبه وعيناه، وصور أخرى للحيوانات التي كانت تلوذ في أحضان هذه الحقول وهي محترقة.
لطالما كان الغناء السمة الأبرز للحصاد، حيث الحصّيدة يغنون بهمة وهم يقطفون ثمار تعبهم وانتظارهم لأشهر، لطالما نُشدت الأغنيات والأهازيج جزلا بقدوم مواسم القمح والشعير، حيث السنابل تتمايل مع لفحات حزيران الحارّة.
كرديا قيل عن القمح ما لم يُقل في أي ثقافة أخرى فمنها الأمثال والحكم، ومنها الأغنيات والأهازيج ومنها القصص وكان للرحى التي تدور والدرّاسة التي تدرُس المحاصيل دور في توليد الحكايا وتقاطرها جيلا بعد آخر.
الآن وبعد كلّ الانقلابات الاقتصادية والانقلاب على القمح في محاولة للاستغناء عنه في اقتصادات اليوم إلا أنّ القمح لا يزال في الصدارة، ولا يزال الشباب يواعدون الفتيات بزيجات في توقيت الحصاد، فالحصاد عرس، عرس أبديّ له بداية في يوم ما، لكن ليس له على ما يبدو نهاية.
أستيقظ لأكتب عن الحرائق، وعن آخر سنبلة في القلب تذروها الريح في البيادر. ومن سيستطيع أن يحمل هذه السنبلة المحترقة من قلبي دون أن يلسع جمرها في جذوتها أصابعه.
ثمة جذوة نار أخرى في الأصابع التي تحاول الكتابة أيضا، أعرف الكثيرين ممن كانوا يودون أن يكتبوا عن هذه الحرائق، وبعضهم كتب بالفعل، هل في الأمر فائض جرح؟ أقول: نعم، وأقول ليس ثمة من يُغالي في مشاعره، بل إنّ الأكثرية لم يعبّر بما يجول في خاطره وقلبه بعد ولم يجاري عواطفه البتة.
أشعر بصدق كلّ كلمة قيلت عن حرائقنا، لا أستطيع تصوّر أي شخص وهو يدهس خبزه اليوميّ في هيئة سنبلة محترقة، تذروها الريح لكن دون أن تجتاز بيادرنا، فثمة ما يبقي رمادها بيننا.
نُشر النصّ في ولاتي نيوز بتاريخ 12 – 6 – 2019