البياض الذي قضم ظُفر الحياة.. قراءة في فيلم (الطريق) لـ يلماز غوناي
“الطريق” من السجن إلى الانعتاق
كتب يلماز غوناي سيناريو فيلم الطريق (إنتاج 1982، 114 دقيقة)، وهو في السجن وأخرجه أيضاً من هناك، ومن كواليس “الطريق” أنّه كان يستقبل فريق التصوير بأكمله في زيارات السجن، والتي كان القانون في تلك الحقبة متسامحاً مع الزيارات، حيث قام بتنفيذ الإخراج ميدانياً صديقه شريف غورين.
فيلم “الطريق”، يحكي قصة خمسة سجناء يحظون بإجازة العيد، حيث كان نظام السجون في تركيا آنذاك يمنح المساجين إجازة العيد يرجعون بعدها إلى السجن، ولكن أبطال “الطريق” أسلموا أنفسهم إلى مغامراتهم، فبينما يفقد “يوسف” تصريح الإجازة، ليودع في السجن، يصطدم الآخرون بمغامرات الحياة التي كانت تغلي على مِرجل الحياة القلقة في تركيا، حيث العسكر، والانقلابات في تلك الحقبة.
وترسم القصص الخمسة متوازيات اجتماعية خمسة، فبينما يتعثّر “يوسف” في رحلته منذ بدايتها مصطدما بحظّه، إذ يفقد ورقة تصريحه، بعد أن عاش لأشهر ينتظر لحظة انفراجة من السجن، يمثّل المشهد الذي يرافق فيه عصفوره في القفص بأنه مثّل حالتهما معاً.
المتوازية الثانية هي لـ “مولود” وهو يصطدم بالعادات والتقاليد التي تمنع عنه رؤية خطيبته في ظلّ الشوق الذي يكنّه لها وهو سجين. لكن القصص الأبرز هي لـ (محمد صالح – سيد علي – عمر)، فمحمد، وحين يذهب ليلقى زوجته وهي في بيت أهلها يصطدم بتهمة التخلّي عن شقيق زوجته، وعدم نجدته حين مهاجمة الشرطة له أثناء اشتباك بينه، وبينهم يبدو أنّها متعلّقة بعمليات تهريب، ويحاول “مَمد” – وهو التصغير بالتركية لاسم محمّد – أن يأخذ زوجته خلسة وينجح في ذلك، حيث يذهبون بالقطار مع أطفاله، ولشدة شوقه لزوجته يحاول أن ينال منها وطراً في مرحاض القطار، لكن يفتضح أمرهما من قبل الركّاب، الذين يشنّعون بهم ويحاولون النيل منهم، إلا أنّ الشرطة تمنعهم، لكنّ النهاية تكون مؤلمة حيث يأتي شقيق الزوجة ويقتلهما في القطار.
في متوازية عمر تبدو الحالة المنعتقة لمتقابلة السجن/الحرية، فالفضاء الذي تم التصوير فيه تبدو شاسعة مليئة بالأغاني الملحمية والحقول والامتدادات غير المتناهية، لكنّ الفتى الحالم يصطدم بصمت مريب خلّفته حالة العسكر الذين قَتَلوا في ليلة وصوله خمسة من شباب القرية، والقرى المجاورة من “المتمرّدين” فيقرّر عدم العودة إلى السجن، والدخول إلى الجانب الآخر ضدّ العسكر كـ “متمرّد”.
أما قصة سيد علي فهي القصة الأكثف بصرياً والأقسى في عينيّ المشاهد، وهي تمتدّ على مساحات بيضاء شاسعة لدرجة التيه.
البياض كفناً أبيض في لبوس الحكاية
قصة سيد علي هي قصة متعلّقة بالعادات المجتمعية المتعلّقة بمسائل الشرف والخيانة الزوجية، حيث يأتي سيد، فإذا بهم يخبرونه بأنّ زوجته قد خانته، وهي لأجل ذلك محبوسة في بيت أهلها ينتظرون زوجها “سيد علي” ليأتي، ويقتلها بيديه على مرأى من عائلتها “غسلاً للعار”، وفي رحلة “غسل العار” يغدو سيد إلى أكثر الأماكن قساوة في تلك المنطقة التي كتب غوناي في مقدمتها حين يدخل الباص إلى ولايات جنوب شرق تركيا “كردستان” حيث تعدّ المرة الأولى التي تكتب فيها هذه الكلمة ذات الحمولة السياسية العميقة.
في هذه الجغرافيا القاسية يغرق المشهد بالبياض، ببياض الثلج القاسي، فيمضي رفقة حصانه الذي لا يقو على متابعة المسير في رحلة “غسل العار” القاسية، فيغرق الحصان في البياض، فيطلق عليه سيد علي طلقة الرحمة، لتتناثر الدماء على تلك المساحة البيضاء الشاسعة، ويعدّ هذا المشهد من أكثف مشاهد الفيلم في المستوى البصري حيث الحساسية العالية التي رافقت مشهد دماء الحصان بطلقة الرحمة في رحلة القتل بداعي “غسل العار”، فالطلقة هي الخلاص للحصان كما سيكون الموت طلقة الخلاص للزوجة التي لن تقوى على العيش في ظلّ مجتمع رسم لها تهمة “العار”، والتي لن تستطيع الفكاك منها حتى وإن كانت منه براء، لأن قضايا الخيانة لا تنمحي إن خرجت على الألسن حتى وإن تمت التبرئة منها.
حين يعود سيد علي بزوجته من حبسها/بيت أهلها صحبة ابنه، بغية أخذها إلى أخيها الأكبر لتتم عملية “غسل العار” هناك وعلى مرأى أعين الجميع، حينها تموت الزوجة في الطريق، في ذات المكان الذي مات فيه الحصان بطلقة الرحمة.
وتشوب سيد علي مشاعر متناقضة من الخيبة والندم والقهر، وينادي زوجته ويدعو ابنه ليضربها بالسوط لتجري الدماء في جسدها، وكأنّه يقدّم لها اعتذاراً متأخراً. ويحمل جسدها على ظهره، وكأنّها إثمه الذي اقترفه.
حين أخرج غوناي الفيلم كان سجينا فاختار لإنجاز هذا العمل مساعده شريف غورين، الذي اعترف للصحفيين أنّه كان الأمين على تنفيذ خطوات غواني من سجنه، حيث كان غوناي يكتب الملاحظات للمصورين ولفريق العمل ودقائق الأمور لمساعده الذي لم يخيّب ظنّه، فكأنما كان عينه مرافقة بياض الفيلم والمشهد.
أخرج يلماز غوناي عشرات الأفلام وكتب أدباً وترك ميراثاً لا ينسى من روايات وقصص وسيناريوهات وأدوار بطولة، ولقب “الملك القبيح”، لكنّ فيلم الطريق كان أفضل أفلامه على الإطلاق، وترك ندبة في وجدان كلّ من شاهده، والمساحات البيضاء التي نقشت الفيلم ما كانت إلا ندوباً في وجدان الإنسانية.
يلماز غوناي الملك القبيح الذي أضاء الشاشة الفضية بنتاجه
يلماز غوناي ولد في قرية اينجه التابعة لمدينة أضنه في تركيا لوالدين كرديين 1 نيسان 1937، وتوفي في فرنسا في 9 أيلول 1984 بعد أن كان قد هرب من السجن بتركيا، وقد دفن في مقبرة العظماء، عن عمر ناهز الـ 47 عاماً، وهو في قمة العطاء والبذخ الفنيّ، وقضى من هذه الأعوام 11 مسجونا، بسبب نزعته اليسارية فضلاً عن كونه كردياً، لكنّه استطاع إنجاز خمسة أفلامه الأفضل من هناك، ومن بينها فيلم الطريق 1982، نال عنه جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، بالإضافة لإخراجه عدد من الأفلام المميزة مثل فيلم القطيع، الجدار، الأمل، سيد خان، وعشرات الأفلام غيرها، ونال الكثير من الجوائز الأخرى كأفضل فيلم، وأفضل ممثل وأفضل سيناريو، كما يعد الأَشهَر في تاريخ السينما بتركيا، كما يعده الكرد أفضل مخرج كردي، كتب عدة روايات وقصص وسيناريوهات أفلام، منها روايته ماتوا ورؤوسهم محنية، نال عنها أرفع جائزة أدبية في تركيا، ورواية صالبا التي ترشح بسببها لنوبل.
نُشر المقال في موقع مجلة صور